مخاوف من استغلالها والتذرع بشماعة الأزمة مرونة “العام” وصرامة “الخاص” تحرض على العمل بروح القانون تماشياً مع المرحلة الحالية
لاشك أن القوانين والأنظمة هي المنهج المحدّد لسير عمل أية مؤسسة أو إدارة، إنتاجية كانت أم خدمية، بهدف الوصول للخدمة والمنتج المثاليين، وتتباين هذه القوانين بين مؤسسة وأخرى حسب طبيعة وآليات عملها فلكل واحدة مهمة وبرامج محددة تتوافق والهدف المنشود من إحداثها، فالنظام المالي للمؤسسة العامة للمعارض -على سبيل المثال- يختلف عن نظيره الخاص بالشركة العامة للبناء، رغم وجود قانون عام ينظم عملهما، والسؤال المطروح هنا: إلى أي حدّ تراعي القوانين طبيعة كل مؤسسة على حده؟ وما أهمية تباين هذه القوانين في خدمة أداء هذه المؤسسات؟ ثم ألا يجدر – وبحكم ما تمر به البلاد من أحداث مؤلمة– أن تُعطى كل مؤسسة مرونة تخوّلها تطبيق روح القانون حتى تتمكن من تسيير أمور البلاد والعباد، بدلاً من التقيّد بالنص الحرفي للقانون، وبالتالي الدخول في غياهب البيروقراطية والروتين المقيتين؟!.
هواجس
لكن في المقابل يبدي البعض مخاوفه من فتح أبواب جديدة للفساد في حال إعطاء مؤسساتنا مثل هذه المرونة، وتعليق تجاوزات وإخفاقات مُسيّريها على شماعة الأزمة، على اعتبار أن الفساد لا يتعلق فقط بسوء النوايا وما يتمخض عنه من تجاوزات وصفقات مشبوهة، وإنما له علاقة أيضاً بسوء تطبيق القوانين حتى لو كانت بحسن نية!!.
حدود
يلاحظ المتتبع لحالات الفساد وما يكتنفها من أساليب ملتوية، أن بعضها ناتج عن العمل بروح القانون، والتذرع بالعمل وفق (مبدأ المرونة)، والابتعاد عن الروتين، وهنا يبيّن القانوني صلاح الشريف أنه يجب أن يكون لكل قانون حدود واضحة وشفافة لسد أية ثغرات قد تجعل الموظف يتلاعب مع المراجع، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالأمور المالية والضريبية. فالقانون في هذه الحالة لابد أن يحدّد للمكلف ما له وما عليه، تفادياً لأية محاولة من قبل الموظف قد تدفعه لدفع رشوى بغية تخفيض ما مبلغ التكليف وبالتالي إضاعة موارد على خزينة الدولة.
وأوضح الشريف أن القوانين لم تلحظ بشكل عام طبيعة المؤسسات وحيثيات عملها، ولكن اللوائح الداخلية لهذه المؤسسات يمكن أن تقوم بهذا الدور في حال تمّ إعدادها بشكل سليم يلبي احتياجاتها خاصة في هذه المرحلة الاستثنائية بالذات، مركزاً على ضرورة إمكانية التعديل من وقت لآخر دون الرجوع إلى الجهات العليا.
نافذة
ولفت الشريف إلى أنه في السنوات الأخيرة فتحت الدولة نافذة لتعديل القوانين بشكل أسرع من السابق، فبعد أن كانت يتوجب الرجوع إلى جهات العليا من أجل تعديل قانون صغير أو لائحة داخلية، أصبح بالإمكان التعديل في بعض الحالات، منوهاً بأن أهم خطوة لمحاربة الفساد وحماية المواطن تتمثل بوضوح القوانين وشفافيتها مهما كانت طبيعتها، إلى جانب وجود الكفاءات المهنية القادرة على تسيير الأمور بشكل يتوافق مع الإطار العام للقوانين والأنظمة النافذة.
بين الانفعال والفعل
يرى مدير عام إحدى الهيئات الحكومية أن الأنظمة والقوانين وجدت لتنظيم العمل، “لكننا للأسف دائماً منفعلين وليس فاعلين”، أي أنه في حال حدوث حالة خلل معينة “نتعامل معها برد فعل ينسحب على الجميع” كأن يطلب مدير ما أحد موظفيه لغرض معيّن، وبالمصادفة يكتشف المدير أن الموظف تأخر عن عمله لسبب ما قد يكون مبرراً وخارج استطاعته، عندها يصدر المدير قرارات وتعاميم تؤكد على كافة العاملين عدم التأخر عن الدوام ومحاسبة ومعاقبة كافة من لا يلتزم بتوجيهاته..الخ، وبذلك يذهب الصالح بالطالح، كونه أكد على كافة الموظفين وليس المقصرين، واعتبر المدير أن هذا يشكل إساءة للآخرين المنضبطين، وأن المبالغة في التركيز على مثل هذه القرارات يعني عدم وجود متابعة حقيقية للإدارات وسير عملها، والأدهى من ذلك هو عدم تفهم روح القانون، بدليل أن هذا المدير غالباً ما يتجاهل مواطن الخلل الرئيسية، دون مراعاة تأثيرها على صلب عمل مؤسسته.
تسامح وحزم
يجمع أغلب المراقبين تفوق القطاع الخاص على نظيره العام بإدارة شؤونه سواء الإدارية منها أو الإنتاجية، وذلك بسبب ما يتمتّع به من حرية ومرونة أكثر من العام، فمدير أي مؤسسة عامة غالباً ما يجد صعوبة بنقل أو طرد من لا يتقيد بالنظام كونه يتقاضى دخلاً قليلاً، إضافة إلى أن العامل العاطفي يجعله يتغاضى عن تقصيره، في حين أن القطاع الخاص حاسم وليس لديه استعداد لتحمل أي تقصير ويسرح المقصّر دون أن يسأل عن مصيره، على عكس العام الذي يحاول أن يعالج الأمور دون تسريح بهدف حل مشكلة البطالة، ما أوجد بالنتيجة ما بات يعرف بالبطالة المقنعة في أغلب دوائر الدولة، لدرجة بات فيها من الأفضل لبعض الجهات أن تبقي موظفيها في بيوتهم مع الإبقاء على رواتبهم لأن وجودهم في وظائفهم يعطل زملاءهم المجدين، إلى جانب أن عدم دوامهم يوفر على المؤسسة نفقات الذهاب والإياب وما إلى ذلك من ماء وكهرباء..الخ، ما يعني بالمحصلة ضرورة أن تجمع القوانين والأنظمة النافذة ما بين الصرامة والحزم بمعالجة التجاوزات الناجمة عن اللامبالين بمصلحة البلاد والعباد من جهة، والتعامل بإنسانية وروح القانون –إن صح التعبير– مع الحالات الاستثنائية التي تستحق ذلك بالفعل، مع التركيز على أن تطبيق هذه المعادلة يتطلب كوادر تتمتّع بمتلازمة التأهيل والنزاهة.
دمشق– حسن النابلسي