ثقافة

ما بعد الوعي بالكتابة!

أحمد علي هلال
لعل الدرس النقدي وهو يستعيد تلك العلاقة الأثيرة المثلثة الأضلاع، بين النص والوعي به ومؤلفه، سينتبه أكثر إلى أن الوعي بالكتابة بات يشكل أكثر من ضرورة معرفية وفكرية لأن الشكل الذي تأتي عليه الكتابة –وهذا بالبداهة- سيكون ناتج ذلك الوعي وحامل تجلياته وصيروراته أيضاً.
والنص.. مطلق نص، هو صورة وتجلٍ لم يعتمل في وعي صاحبه، سواء ماجاء منه بشكل يفارق المألوف أو يماثله على نحو ما، فحقيقة الكتابة بالمعنى الدقيق للكلمة هي تلك الصورة الأشمل لشواغل وهواجس المبدعين، حيث إن التجليات التي نجدها في غير جنس إبداعي هي ليست وليدة لحظتها وليست عابرة في هامش كتابي أو سواه، بل هي نتيجة كما هو مفترض لتراكمات أقلها أنها تنجز في الوعي تأملها الخاص، ومن هنا ذهبت ثلة من النقاد إلى اعتبار أن الوعي بالكتابة، هو وعي بضرورتها وليس بمصادفاتها أي مجرد شغف بالكلام، هذا يعني أن الكتاب الذي يدرك أن نصه من يتأمله أيضاً ويساجله في فكره ووعيه هو النص الذي يستحق الحوار مع المتلقي، من أجل أن يكون المتلقي ذاته على خط أفق الكتابة وليس خارجها، فهي من تخاطبه سواء كان هذا المتلقي في صورة فردية أم جمعية.
لكن الوعي بالكتابة ليس مجرد مثال يتطير إلى مثالية متعالية بالنصوص وعليها إنه بمعنى إضافي مهاد حالة الخلق التي تسبق الكتابة بوصفها الشكل الأخير لما استقر عليه الوعي لكنه مع ذلك ليس شكلاً نهائياً بمعنى الانجاز المطلق، فعلى الدوام إن النصوص في حالة تشكل مستمر وهذا ما استلزم وجود القارئ بكل مستوياته وذائقته ومرجعياته في إستراتيجية البحث عن الدال والمدلول والدلالة، ففي ميزان النقد ثمة الكثير من النصوص التي اجتزأت الوعي وجازفت بأن تنجز نصها مقطوع الصلة بمرجعياته، وإذا جاز التعبير بتاريخ سابق، هو تاريخ العلاقة مع النص تأليفاً ومكابدة وعناء، وكانت في هذا السياق هي أقرب إلى تشكيلات باذخة تتخفف من المعنى أوتُراها في أحسن الأحوال تعيد إنتاج المألوف والمعروف والسائد لتصبح نمطاً ينغلق عليه، وبالتالي وتحت مسوغات عدة يتداول «النص المفتوح والنص المغلق» دونما أدنى انتباه للفرق اللغوي والدلالي، الأمر الذي أصبح معه تعبير نص مفتوح يبدو وكأنه المخلص لمن عثرت به الكتابة فضاع معه تعينها الاجناسي لنذهب في التباس معرفي لا ينهيه إلا تأصيل النظر بمعايير نقدية، صحيح أنها تمتلك حدودها لكنها لا تتخلى عن مرونتها المنهجية المفترضة، فمن الثابت أن النص المغلق هو النص القابل للتفكيك وهو النص الأكثر استدعاء لاكتشاف العلامات وإذا ما ذهبنا إلى أُطروحات النقاد وعلى سبيل المثال لا الحصر جيرار جينيت، ورولان بارت اللذين أبديا مرونة كبيرة في استيعاب المصطلح وفق منظوره الثقافي-التاريخي ومن داخل ثقافة بعينها قد لا تجد تمثيلاً لها في ثقافة أخرى إلا بالمشترك الدلالي، وعليه فإن الناقد العربي في مدوناته النقدية الكثيفة والمحايثة لما أُنجز في هذا السياق في الأغلب الأعم ذهب مجهوده لطبيعة إجرائية محددة تجاوزت في مسارات معينة الطبيعة النظرية لنظرية الأدب، فيما ظل آخرون وفي صورة تكاملية يماهون ما بين الطبيعة النظرية «التنظير» والعامل الإجرائي وهذا ماجعلنا كمتلقين أولاً في ذلك البون الشاسع ما بين النظرية والتطبيق وخلق العديد من الأزمات في أفق النقد بحيث التبست وظيفة الناقد اليوم بالتباس دوره ومرجعياته، ومن خلال ذلك أيضاً وقف المبدع على مسافة مما يُنجز في الحقل النقدي، استغراباً أو استفهاماً أو دهشةً أو تعلقاً دونما تبرير، الأمر الذي جعل الكثير من المبدعين ينأون عن ضروب المعرفة النقدية واستبدالها بما تحيل نصوصهم إليه، وهكذا ساد في المتداول الثقافي أن النص سابق عما عليه، لكن ذلك لا يعفي على الإطلاق من أن العلاقة ما بين وعي النص الإبداعي ووعي النص النقدي هي علاقة متكاملة وإن شابها الكثير من الالتباس المعرفي الذي  يبدده الحوار المستمر وتضيف إليه طبيعة السجال المستمرة انفتاحاً في دلالته، تلك الدلالة الفاخرة التي بتنا في حاجة ماسة اليوم ليس إلى اكتشافها فحسب وإنما تعميق الوعي بها