ثقافة

صلاة القلوب..

مثلما يرحل الليل وحيداً نحو حقول ضيعةٍ تجاور حدود السمَّاء وتطلُّ من هناك على بحرٍ يرسم في دفتر الفجر كل صباحٍ شهوة الأمهات لعودة أبنائهن من بلادٍ تقاسمت فيها الحياة كل الأسماء المتصارعة على البقاء في ظلّ عالمٍ نعست فيه الأشياء كلها، ولم يبق فيه سوى هذا الضجيج على أعتاب البريد، أو السهر الطويل على الشواطئ لكل الصّرخات اللاّجئة.. ومثلما يقرأ الفلاحون في ضفائر الشمس عودة المواسم، ليقيموا حفل الزفاف لأبنائهم الذين سكنوا أحلامهم، فتبتسم الشفاه عند القطاف وقد نضجت كل الثمار..
هكذا تفقدني ثلاثة من أصدقاء الزّمن الأول بعد عودتهم من ديار الغربة.. وتحت كلماتٍ موجزة، كان الأول فيهم يحمل في لغته الودود حداء الفراشات التي غصّت في احتراق النّار، وقد انتشرت صيحاته الناقمة على الملح، والماء، وعلى العربات التي كان يسير وراءها، يبيع الحلوى الطّازجة في مدينة “سدني” باستراليا، وقد تبدل هناك حتى لون عينيه، وأنّى له أن يرى بعد هذا سوى تلك المظلات الحارقة، وأطفال التبني يُشاركونه الحزن على ضياع النسب..
وأمّا الصديق الثاني ذو القامة الطّويلة، والجسد المائل للتهمة يرشق الزواريب الضيقة بعناوين ما زالت ترافق يومياته، فقد بدت عليه ملامح الوجع الشعري الذي كان ينقيّ ذهنه من رائحة اللغة التي لا علاقة لها بأدواته التي ألفها وغنّى بها لوطنه يوم كان على مقعد الدراسة في وطنه سورية.
والصديق الثالث.. بدا لي وكأنه كان يحمل في جيبه صورة للوقت الحامض الذي أدثر فيه ثوب الحكمة، يوم كان يلقي على مسامعنا شعراً محكيّاً في اختلاجات عفويّة معلقة على رفة غيمةٍ ما تزال تشاطره، وتلهج بصدقها تلك الكواكب في سماء مدنية اسمها /برازيليا/ وها هو الآن وقد عاد ليمسح بكلتا يديه عرق السنابل في حقلٍ ينتظره فيه والده ليحقق حلمه المنتظر بزفافه..
لقد كان اللقاء مفاجئاً لي في ذلك اليوم قبل عام.. وقد استعدنا فيه معاً عصر السّراج النائم على جدران البيوت الطينية، أما وقد انهزم المستحيل الآن أمامنا رغم طوفان الدمع الذي ناجينا فيه وقتنا الإضافي حتى طلبت إليهم مستأذناً بالقول:
اسمحوا لي أن أعيد إلى الذاكرة كلمات امرأة تشبه /مريم/ العذراء في معجزتها التاريخية فاقرأ في هذا المكتوب أمامي ما قالته لأولادها الثلاثة الذين قدموا أرواحهم فداءً لوطنهم سورية والتي غبتم عنها طويلاً.. كانت كلماتها إشارة مرور إلى الفردوس حيث قالت: “ما أمتع الموت من أجل فكرةٍ عظيمة أنا بعدكم لا أموت مرتين سلاماً أحبتي”.
وها هي الآن تهاتفني بعد أن علمت بمجيئكم وتدعونا إلى خيمتها على بيدر قريتها النائية لنؤدي معاً صلاة القلوب، وتحشرنا الضيعة تحت سمائها السابعة فهيا إلى هناك..