“صُنع في سورية” بِرَهن الحكومة الجديدة بيــن “الفنتــازيا” والواقــع مسـافــة تحـكمها إرادة التطويـر والابتــكار
(اضطرت إحدى شركات القطاع العام إلى الاستعانة بخبير ألماني لإصلاح إحدى الآلات المعطّلة، وأثناء عملية الإصلاح احتاج الخبير إلى “برغي” لإتمام عمله، واشترط أن يكون صناعة ألمانية حصراً، ولسوء حظ الشركة فإن السوق المحلية زاخرة بهذا النوع من البراغي باستثناء الألمانية منها، وتحت ضغط تمسّك الخبير بإحضار “البرغي” الألماني، فاضطرت الشركة إلى إيفاد أحد موظفيها إلى بلد المنشأ وإحضار “البرغي”، ما زاد الأعباء المالية لعملية الإصلاح من مهمة سفر للموظف، وتمديد مدة إقامة الخبير، والأهم من ذلك كله تكريس ثقافة الانصياع للصناعة الأجنبية…).
رسائل
هذه القصة “الفنتازية”، ولكن فيها من الواقعية الحدّ الكبير، تم عرضها في مسلسل مرايا الشهير، في محاولة لبث عدة رسائل أبرزها أهمية الاعتماد على الكوادر المحلية، وملامسة تداعيات الثقة العمياء بالصناعة الأجنبية، والكشف عن مواطن الخلل والفساد في قطاعنا العام.
بالمقابل هناك قصة واقعية مفادها أن أحد الباعة درج على اتباع تقديم النصح لزبائنه بشراء بعض المنتجات المحلية التي أثبتت جدارتها وجدواها الاقتصادية، ولدى الاستفسار حول قصده، عبّر صراحة عن أنه يحزّ في نفسه تقويض عبارة “صُنع في سورية” المُدمغة على بعض المنتجات التي تضاهي بالفعل نظيراتها الأجنبية وخاصة المنتجة من القطاع الخاص.
تفادياً للهدر
هاتان القصتان تستحقان بالفعل قراءة عميقة والتوقف عند نقاط غاية في الأهمية، تتمثل في أن الإمكانات السورية، وخاصة البشرية منها قادرة على التطوير والابتكار، وأن الاستعانة بالخبرات الأجنبية، ولاسيما في صغائر الأمور هي هدر للمال العام، وأن القطاع الخاص -رغم التحفظ على دور أغلب رواده خلال الأزمة– أكثر جدية في التعاطي مع مسألة جودة الإنتاج من نظيره العام لاعتبارات باتت معروفة ليس أولها المحسوبيات، ولا آخرها الاسم التجاري وما سيولّده من أرباح تضمن استمرارية الإنتاج والمنافسة.
إسقاط
في محاولة لإسقاط ما سبق ذكره على الاقتصاد السوري ومعرفة إلى أي درجة من المنافسة وصلت المنتجات السورية نجد أنها دون المستوى المطلوب ونحن هنا نتحدث عن سنوات ما قبل الأزمة، حيث يرى المراقبون أن هناك أسباباً عدة ساهمت في تدني مستوى القدرة التنافسية في سورية لغياب الدعم المنظور وغير المنظور كالذي تتلقاه –على سبيل المثال- المنتجات المصرية والخليجية والتركية سواء من ناحية انخفاض أسعار الطاقة أو من ناحية النقل والشحن والإعلان، إضافة إلى أن النظام الضريبي والنظام الجمركي والفساد الإداري تعرقل المستثمر السوري وتجعله أقل قدرة على المنافسة، ثم جاءت الأزمة لتزيد من الأعباء والعراقيل أمام مسيرة اقتصادنا الوطني، ما سيضاعف بالتالي مهام ومسؤوليات حكومتنا الجديدة التي ستضطلع –أغلب الظن– بملف الإعمار وما سيحمله من آمال ليست بالقليلة تدغدغ مشاعر وأحلام السوريين.
دراسة وافية
الاقتصاد السوري يواجه الآن أزمة كبيرة بسبب ضعف الإنتاجية وضعف الإدارة، وهذا يحتم علينا دراسة هذه الأمور دراسة وافية وإجراء تغييرات جذرية على كثير من المسائل الاقتصادية والتحرك أكثر وبسرعة أكبر لحماية منتجاتنا، ولاسيما في ظل ظهور تحديات جديدة لم تكن مألوفة، بعضها مرتبط بالبيئة الاقتصادية والسياسات الاقتصادية في البلاد، وبعضها الآخر مرتبط بطبيعة التنافسية في العالم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التنافسية ترتبط بثلاثة عوامل رئيسية هي السعر والجودة والتكلفة، وهي محفز قوي يدفع نحو بذل المزيد من الجهد لتحسين الأداء على مستوى المؤسسة من جهة، وعلى مستوى الاقتصاد الوطني من جهة ثانية، وبالتالي إيجاد مزايا تنافسية تمكن الاقتصاد الوطني من المحافظة على نشاط المؤسسات تجاه المنافسين وتعزيز مكانتها في السوق.
آخر القول
نذكّر ونحن نعيش هذه الأيام حالة ترقب لحكومتنا المقبلة، بأن المنافسة، والتنافسية، والإغراق، هي ثالوث الاقتصاد الحر الذي يعتمد على العرض والطلب، أو ما يسمى في بلدنا (اقتصاد السوق الاجتماعي)، وعلى اعتبار أن تعزيز المنافسة ورفع القدرة التنافسية داخلياً وخارجياً سوف يسهمان باستقرار اقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمارات ودخول مستثمرين جدد إلى البلاد، من خلال تحقيق العدالة والشفافية في كل المعاملات التجارية لجميع الراغبين بالاستثمار، فلا بد من الإبداع والابتكار والبحث عن أساليب أكثر حداثة للارتقاء بالمنتج والخدمة في ظل اقتصاد السوق الاجتماعي، والوقوف أمام الانفتاح الاقتصادي العالمي لنصل إلى اقتصاد متمكن ومتماسك يستطيع المنافسة على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
دمشق – حسن النابلسي
hasanla@yahoo.com