رحل متدثراً بالقصيدة
سلوى عباس
أمام رهبة الموت يضيق أفق الكلمات، لنرى أنفسنا على حافة الفقد نودّع ونستذكر أحبة وأصدقاء غادروا دنيانا، أعزاء جمعتنا بهم الحياة وتقاسمنا معهم رغيف أفراحها وأحزانها، لكن هناك حالات تستحق الوقوف عندها، فاليوم نودّع قامة إبداعية جديدة رفعت مرساتها باتجاه الشاطئ الآخر، يغادر الشاعر سميح القاسم مملكة الشعر ليلحق بقامات شعرية اختطفها الموت في غفلة الحياة.. يرحل القاسم الذي أعطى الشعر نداوة روحه وعمره، فشكلت قصيدته شجرة وارفة الحياة، وحالة عطاء لاتنضب، قصيدة خلّدته رمزاً للمقاومة لتصبح الكلمة رئته التي يتنفس منها الحياة، يشهرها سلاحاً في وجه هذا القبح الذي يتطاول على كل ما هو جميل في الحياة.. كان القاسم يلوّن قصائده بأزاهير الحب وينسج خميلة انتمائه على روحها ألقاً يعيش لحظاته على وقع نبضها، فتسبقه وتسبق الزمن الأرضي إلى زمن من نضال وإبداع، فشكّل شعره حالة ثقافية على التوازي مع تجربته النضالية والسياسية، التقيته في إحدى زياراته لدمشق، فبادرته بسؤال استفزازي، كيف أن المعاناة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني لم تترك أثرها على ملامحه، حيث البسمة لاتفارق محياه، فأجابني بعيون تبرق بالتحدي والأمل: “حاولوا أن يقتلوا فينا نسغ الحياة، لكنهم فشلوا وبقاؤنا في الأرض المحتلة لننتزع وجودنا وكرامتنا، وليس لنستكين لهم، فالحياة جميلة وطالما أن روحي تورق بالشعر، فكل لحظة تأتي تمنحني حياة جديدة، لأن حياة بلا شعر ليست جديرة بأن تُعاش”.
لقد أرّق الوجع سميح القاسم، فغادرنا وجرح يقضّ قلبه على وطن عشقه وشغف به، وطن يُعاني ما يعانيه من النزف والألم، هذا الوطن الذي رسمه القاسم حلماً من حب تجلّى في أبهى حالاته، ارتسمت حوله تطلعاته وأمانيه، فحمله في وجدانه أمانة، كان الحافظ الأمين لها حتى آخر لحظة في حياته، فهل الحياة تفرضُ علينا أقدارنا، أم أننا نحن الذين نختارها؟.
أمام الموت نقف عاجزين عن فعل شيء، نجهل إلى أي مستقر يقذفنا، حيث كل يوم يغادرنا مبدع، وكل يوم نفتقد عزيزاً، شاء شاعرنا الرحيل مع أنه ليس وقت الموت، وليس وقت انكسار الشعر ووهن القلوب، فهناك الكثير ليعطيه.. هل يُعقل أنه تعب وهو الذي بشّر بكثير من الفرح..
ماذا نحدّث عن سميح القاسم وتألق إبداعاته التي ظل عبرها مشدوداً إلى فلسطين دون سواها مُغنياً تاريخها وحقولها، أرضها وسماءها، أطفالها وشهداءها دون أن يتخلّى عن إيقاع قصيدته التي حملت القضية الفلسطينية إلى العالم بأسره لتصبح جزءاً من ضمير هذا العالم كقضية شعب مكافح يحمل السلاح بيد والكلمة بيد أخرى.