التمويل المصرفي التنموي والإبداع المطلوب
انطلاقاً من أهمية المنشآت الصغيرة في مكافحة البطالة ودفع عجلة التنمية، كثَّف المنظِّرون في العلوم الاقتصادية، من طروحاتهم حول ضرورة استنهاض القائم من هذه المنشآت، وإمكانية إحداث الجديد منها.
كما حظيت هذه الطروحات باهتمامات ذوي الشأن، منذ عقود مضت، حيث تم إحداث مصرف متخصص (المصرف الصناعي) بمنح القروض الصناعية والحرفية، وحصلت الكثير من المنشآت التجارية والخدمية على قروض من المصرف التجاري ومصرف التسليف الشعبي، ومن ثم عمدت المصارف الخاصة (عقب إحداثها) لاتباع نفس النهج، وفقاً لما يتناسب مع خططها المصرفية.
كل ذلك كان بهدف تنمية المنشآت الصغيرة، لكن الشكوى لازالت قائمة عند الكثير من طالبي قروض المنشآت الصغيرة، وما زالت البطالة تتفاقم وعجلة التنمية تسير ببطء، قياساً بالمأمول، وكل ذلك يعود للقيود التي تفرضها الجهات المقرضة على المقترضين، الذين يشكون من عدم قدرتهم على الالتزام ببعض شروط الإقراض، ما يغلق عليهم باب الاقتراض، عدا عن الفائدة –ذات الربحية العالية- التي تطلبها العديد من الجهات المقرضة.
ليس هذا فحسب، بل رافق ذلك شروط تسديد مجحفة، إذ تبيّن بشكل جلي أن جميع الجهات المقرضة، تهدف لمزيد من الربح السنوي، الذي يفاخر بعضها بملياراته نهاية كل عام، ما دفع الآلاف من مستثمري القطاع الخاص والأجنبي لاستثمار أموالهم في العمل المصرفي بدلاً من المنشآت الإنتاجية، ومن ثم جاءت الجهات المقرضة الجديدة، تحت تسميات مختلفة –صناديق ومؤسسات تمويلية- لتنتهج ذات الأهداف، وبشروط ليس باستطاعة معظم المقترضين الالتزام بها، وبلبوس الفائدة الشهرية -بدلاً من الفائدة السنوية- بحيث توهَّم البعض أن فائدتها أقل، خلافاً للحقيقة، ما كرَّس مشكلة البطالة وحدَّ من التنمية المتوخاة، وحافظ على الربحية العالية التي تهدفها الجهات المقرضة، عبر مزيد من الإغراءات والتسهيلات باتجاه القروض الخدمية والاستهلاكية، ما يجعل الإبداع التمويلي المصرفي المعلن عنه لدى الكثير من الجهات المقرضة، بعيد المنال، هذا الإبداع الذي أرى إمكانية تحققه عبر العديد من إجراءات تسهيلات قروض التمويل الإنتاجي الصغير والمتناهي الصغر، والتي على الجهات المقرضة العمل بها، وأذكر منها:
أولاً: تخفيض الفائدة على جميع القروض الإنتاجية، وتقاضي أقل فائدة ممكنة على قروض الثروة الحيوانية والزراعية، وما يتعلق بتصنيع مستلزمات ومنتجات هذه الثروة، والحدّ من القروض الاستهلاكية والخدمية، من خلال رفع الفوائد المستحقة عليها لصالح خفض فوائد القروض الإنتاجية.
ثانياً: التزام الجهات المقرضة بتقديم بيان مالي سنوي موثق لوزارة المالية، يظهر نسبة القروض الإنتاجية والخدمية والاستهلاكية، ليتم خفض الضريبة المستحقة عليها، كلما زادت نسبة قروضها الإنتاجية.
ثالثاً: إعفاء قروض الشهداء –التي تقدمها المؤسسة الوطنية للتمويل الصغير– من الفائدة والاكتفاء بالعمولة فقط، على أن تمنح المؤسسة قرضاً مماثلاً للجرحى المعوقين، وعلى أن يكون شهداء وجرحى الدفاع الوطني مشمولين بذلك.. وهذا أقل بكثير مما يستحقونه.
رابعاً: نظراً لمعاناة مقترضي التمويل الصغير مع توفر الكفلاء، على جميع الجهات المقرضة –للقروض الإنتاجية- اعتماد عدم طلب كفلاء، والاكتفاء بالضمانات التي يقدمها المقترض، واعتبار المنشأة مرهونة للمصرف –أي بمثابة ملك له– ريثما يتم تسديد القرض، على أن تتولى الجهة المقرضة متابعة أعمال المنشأة وتقييمها شهرياً، بما يضمن جدية استثمار القرض، وتوفًّر إمكانية تسديد الأقساط، مع أحقيتها في اتخاذ ما تراه من إجراءات مناسبة عند أية شكوك، وهذا يستوجب ضمان عدم جواز حصول المقترض على أكثر من قرض على منشأته.
خامساً: اعتماد الجهات المقرضة أسلوب تشجيع المقترضين على سداد الأقساط في حينها، من خلال تعهدها بتسليم المقترض 1% من الفوائد المستحقة على القرض، عند اكتمال التسديد في حال لم يخل بذلك وخفض هذه النسبة بما يتناسب مع الخلل الذي قد يقع فيه، أو الوعد بمنح قرض لاحق بفائدة أقل بـ/1%/ عن القرض السابق.
سادساً: المزيد من تدخل الدولة لصالح القروض الإنتاجية، وذلك على غرار مكاتب التنمية المحلية التي تم إحداثها، والتي باشرت عملها في منح قروض إنتاجية دون فائدة لسكان القرى الفقيرة في عدة محافظات، وعلى الجهات المقرضة الأخرى –الرسمية والخاصة- أن تتبارى فيما بينها، بكمية القروض الإنتاجية التي تمنحها دون فائدة، لحالات خاصة مدروسة.
بهذه الإجراءات وما يماثلها يتحقق الإبداع الذي تنشده مؤسسات التمويل المصرفي بكافة أشكالها، وليس عبر المزيد مما تنفقه على الإكساء الخارجي والداخلي والأثاث الفاخر، والرواتب العالية للعاملين، وما قد يرافق ذلك من صرفيات استهلاكية أخرى، وما تُباهِي به من أرباح سنوية تحققها، تُجبى من متطلبات الحياة اليومية لكثير من المقترضين.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية