ثقافة

(الحب) amour الشيخوخة ملاذ لعشق أبدي

يبدأ فيلم “الحب بمشهد صادم حيث نرى اقتحاماً سريعاً للمنزل من قبل رجال الإطفاء ليجدوا جثة سيدة ملقاة على الفراش، ومحاطة بالورود والياسمين…أي يعتمد الفيلم أسلوب الفلاش باك المعروف في الفن السابع، بعدها يعود بنا المخرج لنتابع قصة حب مذهلة بين زوجين عجوزين تجاوزا الثمانين من عمرهما.
مدرسا الموسيقا العجوزان يعيشان تقاعدهما في منزل باريسي فسيح يضج بالموسيقا والأدب والكتب. تتعرض الزوجة لجلطة فتصاب بالشلل النصفي العمودي، فتبدأ رحلة الزوج بالاعتناء بزوجته مقسماً لها بأنه لن يدخلها أي مصح أو دار للعجزة، وهنا ندخل في تفاصيل حياة الزوجين وقوة الحب التي تجعل الزوج حاضناً لزوجته المريضة كطفل صغير بدءاً من أسلوب تعاطيه معها في الكلام إلى إطعامها ورفعها إلى السرير وانتهاء بالحمام. ورغم ذلك لا يمتعض الزوج ولا يمل رغم حركة جسمه المتثاقلة كرجل ثمانيني. المخرج هاينكه  يصور لنا الحب بطريقة غير مألوفة حيث نرى غالباً الأفلام تقدم الحب من منظور الشباب والفتيات الغارقين بتبادل القبل والضحكات والجري في فضاء الحب اللامحدود. ولكن المخرج يدعونا في فيلمه إلى اكتشاف حب من نوع آخر.
يصور لنا الفيلم حياة العجوزين كعاشقين أمضيا عمرهما معاً حتى أصبحا على درجة تفوق الوصف من الارتباط ببعضهما البعض، فالزوج جورج يرفض مساعدة ابنتهما ايفا لهما، فهو يريد الاعتناء بزوجته كما يرى هو لا كما ترى الابنة، فهي لا تستطيع أن تقدم لأمها ما يقدمه الزوج المحب المخلص الذي يجاهد لتخفيف آلام زوجته لذلك يروي لها الذكريات ويقرأ القصص ويمتص غضبها بهدوء وروية، ونشعر أن زيارة الابنة لهما تبدو كأنها دخول شخص غريب يزعج حب الشيخوخة، ورغم برودة أعصاب الزوج وتحمله كل ثقل المرض وعذاباته إلا أنه يفقد أعصابه مرتين: ففي الأولى يصفع الزوجة والثانية في الحلم حيث تحاول فيه يد كتم أنفاسه مما يوحي إلينا أنه سيختنق فيستيقظ مذعوراً لاهثاً خائفاً. المرض يجثم بقسوة على مروج الحب بينهما فتتأثر علاقة الزوجين. ومع تقدم جورج في السن، وإصابته بالشيخوخة، يجد نفسه وكأنه أصبح أماً لزوجته، لدرجة إجبارها على تناول الطعام حيث يحاول عدة مرات إدخال الطعام عنوة داخل فمها المغلق. ولأنه يحمل طاقة حب هائلة استطاع التأقلم بشكل بطولي مع دوره الجديد.
يتعاقد جورج مع ممرضتين لتساعدانه بالاعتناء بزوجته إلا أنه يطرد إحداهن لتعاملها الفظ مع الزوجة المشلولة قائلاً لها أتمنى أن يعاملك أحد ما بهذا الأسلوب حين تصبحين عجوزاً، فتأخذ الممرضة أجرتها وتخرج شاتمة جورج.
قوة الحب تتسامى وتتصاعد لدى الزوج لتصل إلى ما يسمى القتل الرحيم، فبينما هو يروي لها قصة تتالى صرخاتها بكلمة ألم.. ألم.. وما إن ينتهي من قصته حتى يمسك بالمخدة ويكتم نفس زوجته، فتتلاشى حركتها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. وهنا نتذكر مباشرة المشهد الافتتاحي فتكتمل معنا ملحمة الحب بين العجوزين.
الشخصيات تم بناؤها بشكل متقن جداً، ولا سيما عندما ننظر إلى الأداء المتميز الذي  قدمه بطلا الفيلم الأساسيان. اللذان يؤدي دورهما (إيمانويل ريفا) بدور الزوجة آن وجان لوي ترينتنيان بدور الزوج جورج، كان أداء الزوجين متكاملاً بشكل مبهر، حتى لتظن أنهما فعلاً زوجان منذ عشرات السنين، وبالتالي لا يمكن أن نعتبر أن أداء أحد الممثلين تخطى الآخر، بل كانا كأنهما يجسدان تماماً معنى الحب العظيم والخالد الذي أراد تقديمه المخرج، ومن خلال حوارات الزوجين ندرك حالة الارتباط الراسخ بينهما حيث وصل الحب بينهما لدرجة أنهما يعرفان كل شيء عن بعضهما فهما يفشيان أدق الأسرار لبعضهما خوفاً من أن تنتهي الحياة فجأة دون أن يقول كل منهما للآخر كل ما يريد قوله.
عظمة فيلم (حب) تتجلى بعدة مسائل منها غياب الموسيقا التصويرية بشكل كامل، ولكن هانكه وظف بدلاً منها الأصوات الطبيعية للفيلم، حيث تم التركيز على صوت خطوات الممثلين وحركاتهم المختلفة، وهذا ما أعطى الفيلم مزيداً من الواقعية، وكأنه حقيقة ماثلة أمامنا بكل التفاصيل الصغيرة، والمخرج اختار تصوير الفيلم بأكمله داخل منزل الزوجين، لذلك يظهر البيت لنا وكأنه شخصية أساسية في الفيلم أكثر من كونه موقع تصوير، حيث يحكي هذا المنزل الباريسي الفسيح- المليء بالكتب والأسطوانات الموسيقية واللوحات والمقتنيات الراقية – تاريخ وماضي شخصيتي الفيلم، ونرى من خلاله حياتهما المشتركة التي استمرت لعشرات السنين، وهكذا يبدو العمل السينمائي وكأننا نرى حياة حقيقية أمامنا لأشخاص عاديين من الممكن أن يكون أي واحد منا مكانهما. وهذا ما يضع المشاهد أمام حالة فاقعة بواقعيتها وكأنها مجتزأة من الحياة المستقبلية لأي إنسان وهو يواجه أيام عمره  الأخيرة.
والملفت في الفيلم أن التصوير اعتمد اللقطات الطويلة التي تم التقاطها من كاميرا ثابتة غالباً، ودون الكثير من المونتاج والتقطيع. ليكون بذلك الدور الأكبر على الممثلين اللذين قدما دورين مذهلين حقاً. وهذه الطريقة في التصوير أضفت عاملاً من التوقع والتحفز، حيث إن المشاهد يترقب طوال الوقت رؤية ما ستؤول إليه الأمور بما أن الأحوال ستزداد سوءاً باطراد كما هو واضح منذ البداية. وبالفعل لم يخيب المخرج آمال المشاهد فمنحه بعض اللحظات المفاجئة التي تكررت عدة مرات في الفيلم بشكل صادم ومحرض للأفكار والمشاعر.
والطريف أن المخرج اختار ممثلين كبيرين في السن ومعتزلين العمل في الفن منذ سنوات طويلة، لذلك لم يلجأ إلى الماكياج أو أية إضافات لجسدهما ووجهيهما فظهرا بعفوية نادراً مانراها في الأعمال السينمائية والدرامية، وكأننا أمام شخصيتين تم رصد حياتهما بكاميرا سرية من فتحة تلصص.
الفيلم من إخراج المخرج النمساوي مايكل هاينكه بطولة إيمانويل رينا، جان لويس تراتينان وإيزابيلا هوبير، وقد عاد جان لويس إلى السينما بهذا الفيلم بعد توقف استمر لما يقرب من 14 سنة- مدة العرض 125 دقيقة – التصوير في فرنسا، وهو إنتاج فرنسي- ألماني مشترك حاز على جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان عام 2012 … عرض الفيلم ضمن فعاليات مهرجان أفلام حديثة الذي تقيمه مؤسسة السينما في دار الأوبرا بدمشق خلال شهر أيلول الجاري.

أحمد خليل