ثقافة

رامبرانت بين الفن والطب.. الفن أيضاً

يعتبر الجسد البشري مقدسا بخصائصه الفيزيولوجية وأعضائه الحيوية التي تشكل وظائفه وسلوكه وتكيفه، حتى أن درجة تناسقه وكماله، حرضت الخيال البشري لتصوير آلهة العالم القديم على شكله وفي مختلف تفاصيله، حتى أصغرها، فما أكمل من هذا في الطبيعة؟ لذا يجب على المتعامل معه، أن يكون لديه ملكات خاصة وفنيات عالية، يجب أن يكون فنانا في المقام الأول في قدرته على التعاطي مع هذا الجسد، سواء كان هذا “موديل” لسيدة بجسد جميل تجلس أمام رسام أو نحات أو كان لمريض تحت مبضع الطبيب، وها هو سيعمل فيه لوحته الخاصة، فالجسد هو وعاء الروح وهو حمارها الصغير كما قال “كازانتزاكي” ويا له من تشبيه بليغ وطريف في آن، لذا كان التعاطي معه ولا زال سواء في الأدب وعموم الفنون، تعاط فيه الكثير من الحكمة والدراية بالتفاصيل التي تكونه، فهنا أي خديعة مكشوفة ولا يمكن التزوير، حتى أن طلاب الفنون الجميلة بعموم اختصاصاتهم، يتعلمون في الأكاديمية الفنية أول ما يتعلمون “التشريح الجسدي” وبالمقاييس المنضبطة والصارمة، وعلى هذا فإن لهذا الجسد احترامه الخاص والخاص جدا.

إلا أن للطب حكاية أخرى مع الفن، بل أنه الفن بذاته كما يرد في القسم الأخير من قسم “أبقراط” الشهير:”فإذا وفيتُ بهذا القَسم ولم أحد عنه، يحق لي حينئذ أن أهنأ بالحياة وبالفن الذي شرفت بالاشتهار به بين الناس في جميع الأوقات، وإذا ما خالفتُ القسم وأقسمتُ كاذبا، فيجب أن يكون عكس هذا نصيبي و جزائي” وعلى هذا فإن على من يريد أن يتعامل مع أجساد الآخرين،والطبيب بطبيعة الحال منهم،فعليه أن يَشعر بآلام مرضاه كي يستطيع معالجتهم، فهم حين يلجؤون إليه، لا تعود تلك الآلام مشكلتهم وحدهم بل تصبح مشكلته أيضا، فالطبيب الجيد هو من يتعامل أولا مع أرواح مرضاه حيث واجبه الأساسي هو إبقاء هذه الأرواح حبيسة أجسادها ومحاولة تخفيف آلامها وعدم إشعارها بأنها على قيد الحياة بل إشعارها بأنها حية، وهذا يحتاج فنا ومهارة فنية عالية لا تقل أهمية عن المهارة في ممارسة الطب.

هذه الجدلية أو “الثيمة” أو العلاقة، لم تغب عن بال “رامبرانت هرمنسزون فان راين” 1606-1696، في لوحته الشهيرة “درس تشريح الدكتور نيكولاس تولب” وفي هذه اللوحة لرامبرانت الذي يعتبر ملك الضوء والظلال، يبدو وكأنه يرسم لوحاته بمواد مشعة، حيث يوزع لمسات النور القليل لتقضي على الظلام المنتشر في لوحاته، وهذه اللوحات تعتبر وكأنها إيذان ببداية عصر التنوير في أوروبا الذي قاده لاحقا فلاسفة وعلماء أمثال “سبينوزا وجون لوك وفولتير ونيوتن”، وهذا يدل على أن الفن هو المتنبئ الأول لما سيلحقه في نواحي الحياة الأخرى، وأننا سنعرف المستقبل القريب لأية أمة من خلال الاطلاع على فنها الحاضر.

اللوحة تُظهر درس تشريح يقوم به الدكتور (نيكولاس تولب) الذي كان طبيبا هولنديا عظيما ومشهورا وقد أصبح عمدة “أمستردام”، حيث نراه يُشرح ويشرَح لمن حوله بُنيةَ ساعِد إحدى الجثث التي تعود لمحكوم بالإعدام بسبب السرقة اسمه “آريس كينت”، وقد شنق “كينت” في صباح يوم التشريح.

في اللوحة نرى سبعةَ رجال إلى جانب د. تولب _للأسف لا نرى نساءً وهذه آفة ذلك العصر وكل عصر_ وقد أراد رامبرانت من خلال هذا العدد أن يشير إلى أن الطب هو الفن الثامن الذي تتعلم منه الفنون السبعة الأخرى، فبحسب قسَم أبقراط “الطب فنّ” ويقال أن أصحاب وجوه الرجال السبعة هم أطباء في أمستردام دفعوا مالا لرامبرانت كي يُظهر وجوههم في اللوحة إلى جانب د. تولب، وهذا يدل على أن الفن مهنة ككل المهن يحتاج إلى المال، والأمر ذاته ينطبق على الطب باعتباره فنا، حيث يحتاج ممارسه إلى المال، خصوصاً أن قسمه يحتم عليه ممارسة مهنته دوما بعكس كل المهن التي يمكن لممارسيها أن يُضرِبوا ويمتنعوا عن ممارستها متى شاؤوا، من أجل أن ينالوا حقوقا أو أجورا أعلى، كما نرى أيضا كتابا مفتوحا في أسفل زاوية اللوحة اليمنى وهو كتاب (بنية الجسم البشري) وهو الكتاب الرائد في علم التشريح للطبيب الفَلَمنكي”أندريا سفيزاليوس”، والذي حكمت عليه محاكم التفتيش، بالموت في القرن السادس عشر بسبب ممارساته الطبية والتشريحية، ورغم أنّهم خففوا الحكم عليه إلى قيامه برحلة حج، إلا أنه مات أثناء القيام بها، وقد أراد رامبرانت توجيه التحية إليه من خلال وضع كتابه في اللوحة حيث أنه _رامبرانت_ تعلّم من خلال هذا الكتاب بنية جسم الإنسان الخارجية والداخلية، وهذا يظهر جليا من خلال رسمه الدقيق لبنية الساعد الذي يقوم د. تولب بتشريحه، حيث تظهر أوتار وعضلات الزند والكعبرة في الرسمة كما هي في الحقيقة.

ونرى أن معظم من في اللوحة لا ينظرون إلى ما يفعله د. تولب، حتى هو ذاته لا ينظر ويرتدي قبّعة أثناء التشريح! وكأن الجميع أراد أن تظهر عيناه ليراه الناس جيدا في هذه “الصورة التذكارية” أو أن الرجال في الصورة يتطلعون إلى الطلاب في القاعة الشبيهة بالمسرح والتي تمتلئ بطلبة الطب عادةً ليتعلموا فنون التشريح. وهذه اللوحة من اللوحات القليلة التي يوقّعها رامبرانت باسمه حيث نرى حرف “ر” في مكان سُرّة الجثة، وكأن رامبرانت أراد الظهور أيضاً في “الكادر” مع هؤلاء الأطباء.

لقد قدر “رامبرنت” هذه المهنة وقدر الفن والجسارة التي تتطلبها، ومدى دقة العمل فيها، والذي لا يمكن إصلاحه هنا في زيادة الظلال أو تكثيف الإضاءة، فجاءت هذه اللوحة، بمثابة اعتراف منه بأهمية وفضل الطب، ورغم الانتقادات التي وجهت لبعض التفاصيل التي وردت في اللوحة المذكورة، إلا أنها أي اللوحة، كانت بطاقة “رامبرانت” للدخول في العالم البرجوازي الذي صار من رواده الكبار، بعد أن طيرت تلك اللوحة بمضامينها شهرته في الآفاق.

تمّام علي بركات