ثقافة

“نسائم ملوثة” لـ فاتن ديركي.. الأدب يمتزج بالواقع الاجتماعي!

تمزج المحامية والكاتبة فاتن ديركي بين القصص الواقعية القادمة من أروقة المحاكم، وتلك النظرة الأدبية التي لا تخلو من الفنية الأنثوية التي تلامس قضايا الأحوال الشخصية، وتقوم بالسرد المبنيّ على الواقع لتزج فيه ببعض الأمل بالرغم من طغيان الوجع الذاتي للشخصيات في عموم القصص، إذ بدأت الكاتبة سرد القضايا الشخصية بأسلوب أدبي غير ممنهج دون إضافة التفاصيل القانونية أو الإغراق فيها، ما جعل النصوص بعيدة عن التنظير، مرهفة الحس، تداعب المشاعر، متعمقة في قضايا المرأة على وجه الخصوص.
أما من الناحية الأدبية فقد تجلت اختيارات الكاتبة ديركي واضحة وموجهة من خلال عناوين مجموعتها التي اختارت لها عنواناً لا يشي بمضمونها (نسائم ملوثة) بل يراوغ القارئ، فيما أضافت ما يمكن أن يكون شرحاً لنوعية المجموعة أكثر منه عنواناً جانبياً (حكايا واقعية من أروقة المحاكم والحياة)، ومن هنا تبدأ العتبة الأولى للنصوص الإحدى وعشرين، فتتنوع عناوينها ما بين (ولادة، خيانة، موت الرجاء، اللقيط، وضيوف الحياة)، وجميعها تحمل صيغة الوجع، وتحكي حكاية الألم والظلم الذي عانته الشخصيات، تمهيداً لسرد جميل ضمن محتوى قصصي معبّر وزاخر بالجمل الشعرية والتعابير النثرية التي تنأى بك عن واقع مبرر يخفف من وطأة عذابات الشخصيات وحتى انتقاماتها في بعض القصص كقصة (وصار رجلاً) التي تتحدث عن صبي لم يتجاوز الخامسة عشرة، انضم شيئاً فشيئاً إلى طوابير الأحداث الجانحين بذنب لم يرتكبه، فيما مدت خيانة أبيه أذرعها حولهم لتلقي ببرودها وسأمها على عائلته التي انزوت في منزل صغير مستأجر وبسيط تأكله العفونة، وهنا تبرز معالم شخصية الصبي ومدى التأثيرات السلبية التي انعكست سلباً على شخصيته بعد محاولة أخته الانتقال إلى حياة العمل وترك الدراسة، مترافقاً مع مرض أمه وتعرضه للتحرش من قبل صاحب العمل، متحمّلاً ألم الذل والانكسار بعد أن حرم من أجره لعدم رضوخه لرغبة معلمه الشاذ، ما جعله يعود إلى مكان عمله في محاولة لاسترداد حقه واشتباكهما معاً، ما أوقع العجوز وارتطام رأسه بالخزنة ووفاته بعد محاولة الصبي إنقاذه وفشله، لينتهي به المطاف  في السجن بعد أن أرسل ورقة إلى  أبيه توقعت الكاتبة أنه قد ناجى والده وناشده ليشعره بخطئه ويخبره بما جناه عليه، فتقول في سرد مترابط يداعب المشاعر ويظهر مدى ألم الابن ووجعه: (سيسعى إليك ملك الموت حينما يتلى عليه اسمك لتنضم إلى قافلة الموتى، ولكنه سيدهش، لأنه سيتذكر أنه قد قبض روحك منذ زمن طويل، لأن قلبك كان قاسياً كالصخر وعيونك مغمضة لا تفتح وحواسك معطلة وشعورك جامد لم يتحرك قط).. و(لتبقى غارقاً في الوحل ولتأخذ صورك، وبقايا أشلائك من نفوسنا، ولكن إياك أن تترك هنا شيئاً لك فما نسيناه لا نريد تذكره ولتذرف من الآن دموع الندم، فما مات لا يعود، وما ذهب لن يرجع).
كما تضع الكاتبة ديركي عتبة أخرى إضافية تشرح عبرها ما يجول في خاطرها، حين كتبت النص، وهو ما جعلته بين العنوان والنص من مقتبسات عالمية وأقوال مأثورة لأدباء عرب وأجانب، وشعراء ورجال دين، فيما تركت لنفسها المساحة الأكبر لتعبر في تلك المقتبسات فتقول في إحداها (نور ونار).. (السفن نصبت أشرعتها البعيدة، بحر العلم يستعد لاستقبالنا، ومنجم الذهب بالانتظار، سنسعى إلى النور، نفجر طاقة، نصنع سوراً بمنأى عن النار)، وهي ذاتها القصة التي تعاني بعض الإنشائية التعبيرية والحشو الزائد، ما أثقل النص وأصابه ببعض الترهل لزيادة الجمل الأقرب إلى الشعارات لا أكثر (اكتشفت الحقيقة، ويا لقسوة الاكتشاف، فقد رفعنا العلم درجات، دون أن نرتفع معه، ارتقى بنا إلى سلم الحضارة والحداثة والتكنولوجيا، دون أن نرتقي بأخلاقنا وقيمنا ومبادئنا، أغنى العلم معلوماتنا وثقافتنا، ولكنه لم يغن عقولنا وضمائرنا ولا نفوسنا وأرواحنا، ألقى حبره في عيوننا، فلم نعد نرى بوضوح)، لكن ما يغفر لها ذلك الترهل في هذا النص وبعض النصوص الأخرى أنها آتية من أروقة المحاكم بما فيها من واقعية، فهي أقرب إلى التوثيق الاجتماعي دون ذكر شخصيات بحد ذاتها، كما تحمل الكثير من البوح الوجداني الذي لا يلبث أن يحمل إشارة ونصيحة لعل القارئ يستفيد ويستمتع في آن معاً، إذ أن الحكمة تنبض بين صفحات المجموعة وتعج بنصائح مموهة غير مباشرة بلسان أنثوي بعيد عن حدة المحاماة والحقوقيين بالرغم من كون الكاتبة محامية، وهذا ما جعلها تحاول دفع الأشخاص نحو الارتقاء والابتعاد عما قد يذهب بهم خلف القضبان آثمين آملين وجعاً مخزوناً يفجر دواخلهم قبل سماع صوتهم.
يذكر أن الأستاذ هائل اليوسفي وضع كلمته على الغلاف الأخير مباركاً النتاج الأدبي للكاتبة ديركي لما اختارته من صور اجتماعية حاكت الواقع ونسجت منه أقداراً كتبت على صفحات لم تدر بها إلا أروقة المحاكم وقضبان باردة حبست الدمع فاختنق وباح الوجع.
ديمه داوودي