“أبو شادي” حكواتي “النوفرة” يلحق بفرسانه إلى الأبدية
من الآن فصاعداً سيختفي صوت عنترة العبسي ويفقد الزير جبروته، وسيبهت ضياء الحب المنبعث من (ألف ليلة وليلة)، وربما تصبح تغريبة بني هلال أثرا بعد عين. فمنذ أيام رحل أبو شادي الحلاق الذي حافظ على وجود أبطال السير الشعبية أحياء بيننا طيلة خمسين عاماً، فلم تكتف الحرب بإبعاد رواد مقهى النوفرة وعشاقها من كل أصقاع الأرض، بل تسللت خلسة لتخطف روح الحكواتي الذي شكل لنصف قرن نبضها وعبقها.. المقهى الصغير المستند بوقار على كتف الجامع الأموي الشرقي استمر بقوة الحب وقاوم تغيرات الزمن ورياح اليباس، خسر النهر (فرع يزيد) وصارع تقنيات الحداثة وأنانيتها القاتلة.. الحكواتي – بلباسه التقليدي الفلكلوري من طربوش وشروال وحذاء الكوندورا والقميص الدمشقي المقصب- استعان بفرسان القصص الشعبية حيث أخرجهم من الصفحات الصفراء وزجهم في معركته ضد التلفزيون والوسائل الحديثة الأخرى، وسانده رواد المقهى من مثقفين وسياح وعشاق دمشق الخضراء، ففي الأمسيات قبل الحرب كان لابد من الإطلالة على آخر أخبار الزير وعنترة وشيبوب وعبلة والظاهر بيبرس وأبي زيد الهلالي. الحكواتي أتقن فن السرد والتشويق كأسلوب في قراءة القصص والروايات بهدف الإمساك بتركيز رواد المقهى، فما إن يباشر بسرد الرواية حتى يبادر الحاضرون بوضع هواتفهم النقالة صامتة للقيام برحلة إلى زمن الفروسية الجميل رغم أوهام الخيال وزركشات الأساطير المختلقة.
يقول المؤرخ قتيبة الشهابي في كتابه “دمشق تاريخ وصور”: (كانت القيامة تقوم في مقهى النوفرة إذا أنهى الحكواتي قصة عنترة بن شداد رغم بقائه في السجن، وكم من رجل قرع باب هذا الحكواتي في منتصف الليل مطالباً إياه بتحرير البطل وفك أسره قبل طلوع النهار وإلا فيضطر المسكين إلى متابعة القراءة حتى يطلق سراحه. ويضيف: (وكم من مرة كانت فيها الملاسنة تحتدم بين المناصرين للزير سالم والموالين لجساس. الأمر الذي ينتهي أحياناً بشجار وعنف وتكسير. وأتت الحرب العبثية لتحصد الأرواح وتبعد العشاق عن ملتقاهم فتراجعت مع حلول العام 2012 موارد المقهى بغياب روادها وانشغالهم بالهروب من غول الموت المنتشر في الشوارع، وبغيابهم تلاشى دور الحكواتي “أبو شادي” وأصبح مجيئه للمقهى أحياناً بحكم العادة حباً بالحفاظ على هويتها. وكمكان أثير لـ (الحلاق) يلجأ إليه، حيث منعته الحرب وكمائن الموت من العودة اليومية إلى بيته في إحدى بلدات غوطة دمشق.
أبو شادي بدأ هاوياً لمهنة الحكواتي، حيث يقول في حوار معه: (بدأت هذه المهنة كهواية، فحبي للمطالعة كان منذ صغري حيث كنت أحضر مع والدي لأسمع الحكواتي في المقاهي الدمشقية، ولطالما نسي الحكواتي كتابه في المقهى، فكنت أحاول أن آخذ هذا الكتاب وأن أقرأ فيه، ومن ثم بدأت هذه الهواية تكبر في داخلي يوماً بعد يوم حتى أصبحت جزءاً أساسياً من حياتي….)، ويتذكر الحلاق (أنه في عام 1970لم يبق أي حكواتي في مقاهي دمشق، وقتها طلبني صاحب مقهى “النوفرة” المرحوم “أحمد الرباط” والمعروف “أبو صالح” شخصياً لأكون “حكواتي”، وأتذكر أنني أجبته “تريد حكواتياً والناس وصلوا للقمر”؟ فأجابني: الناس يريدون الحكواتي، فعرضت عليه بعض الأسماء، ولكنه أصر على أن أكون حكواتي الشام..).
لا ندري الآن إن كانت أرواح أبطال الزمن الغابر تحوم حول قبر الحلاق في (مقبرة باب الصغير) تحاول إنهاضه من جديد لتكون قيامته إيذاناً بقيامة زمن جديد يعود فيه النهر للتدفق من جديد ويعود الياسمين ليضخ عطره في شوارع دمشق البهية الآمنة طارداً شبح الموت إلى جحيمه..
مقهى النوفرة :
أقدم مقهى في دمشق ويقدر عمره بـ 500 سنة، وسمي بالنوفرة نسبة للنافورة التي كانت تتدفق بارتفاع 4 إلى 5 أمتار في بحرة مجاورة للمكان. وقد توقفت النافورة عن التدفق بعد توقف النهر الذي كان يغذيها واسمه “نهر يزيد” عن الجريان منذ 50 عاماً.
وفي رواية أخرى سبب تسمية المدخل الرئيسي لحي القيمرية العريق والمسمى بالنوفرة حيث يقع مقهى النوفرة هو: أن الجنود العثمانيين اختاروا أن يقطعوا رأس أحد الثوار الدمشقيين على المدخل الرئيسي لهذا الحي العريق “ليكون عبرة لغيره” فسميت منذ ذلك اليوم بالنوفرة لأن دم الثائر نفر على شكل “نوفرة” عند قطع رأسه.
أحمد خليل