قراءة في ديوان “أحد عشر إصبعاً” للشاعر السوري “طلال سليم”
تكمن المشكلة بين الشعر والنقد الشعري، أنّ النقد الشعري لا يملك خيارات أو معطيات واسعة تندرج ضمن الأصول الشعرية والمعرفة المنهجية لهذه الأصول، ليصبح بإمكانه الحكم بشكل مطلق ونهائي على قصيدة ما بأنها قصيدة أو لا قصيدة؛ فنحن لا نستطيع حتى تقييم القصيدة أو وصفها بالجيدة أو الرديئة، وما إلى هنالك من صفات استحسانية، أو استهجانية، وخصوصاً في حالة قصيدة النثر التي لم تتبلور معطياتها النظرية حتى اللحظة، رغم انتشارها بشكل كبير في العالم العربي، وإقبال كبار الشعراء السوريين والعرب، كأدونيس وأنسي الحاج، عرابي قصيدة النثر، على كتابتها والتنظير لها. إلا أنّ هذا التنظير جاء في معظمه من كتاب الفرنسية سوزان برنار (قصيدة النثر من بودلير حتى الآن).
أما الحيرة الخاصة في تقييم قصيدة النثر، فمردّها إلى أنّ النقد بمصطلحاته التقليدية لم يستطع أن يجاري الشعر بمختلف مراحله بابتكاره صيغاً ودلالات غير شعرية تقارب النص الشعري من وجهة نظر نقدية بحتة؛ إذ غالباً ما تبدو الكتابة عن الشعر وكأنّها تتقدم في الفراغ، ثمّ تعود لتمحو آثارها، لذا يبدو أننا لن نستطيع أن نقرأ قصيدة النثر، أو أن نقاربها، إلا في حال قراءتها بإدراك مشابه للإدراك والوعي الذي كتبت فيه، وهذا الأمر، بطبيعة الحال، مختلف في كلّ قصيدة، وفي كل تجربة شعرية عن غيرها، لكننا، بحكم علاقتنا باللغة العربية، ومعرفتنا بمواطن الجمال بتقنياتها المتنوعة، نستطيع الحكم على قصيدة ما بأنها رائعة، مثلاً، لأنها لامستنا وأيقظت في دواخلنا عوالم منسية من الفرح الضائع، أو الحزن البهي، أو حرّضت في أعماقنا الشاعر الكامن فيها، حيث ما من إنسان تعامل مع اللغة العربية إلا وسحرته إيحاءاتها ومفرداتها والعلائق التي تجمع بين تراكيبها، تلك التي تنتج عنها قدرة عجيبة فعلاً في أن ترينا صورها المقروءة وكأنها مشهد سينمائي يمرّ أمامنا.
لم تأتِ هذه المقدمة الضرورية من نزقي وعبثي الشخصي، وأنا أفرد أمامي “أحد عشر إصبعاً” مجموعة شعرية للشاعر طلال سليم، رغم أنّ عنوان المجموعة “أحد عشر إصبعاً” جاء من إحدى قصائد المجموعة “خلقني الله”، إلا أنّه غريب ونافر بحدّة عن الخط الناظم للمجموعة الشعرية بأكملها، هذا الخيار مفتوح ومتروك لظنون الشاعر طالما أنّه يتمايز بالفرادة والابتكار، لكنه هنا لا يقع تحت هاتين الصفتين بسبب اتكاء سليم، في عنونته لمجموعته، بشكل مقصود، على صور وإيحاءات ترسخت في وعينا بإشباع لا يمكن الإضافة إليه بأيّ حال من الأحوال، ولا يمكن مصادرة تأثيره المتأتي من وقعه الشهير، سواء في النص القدسي، كما في سورة يوسف، أم في الاستخدام المفرط لإيحاءات تلك السورة وجملتها الشهيرة “أحد عشر كوكباً”، لدى العديد من الشعراء، ولعلّ أشهرهم محمود درويش وأمجد ناصر، ولا أدري كيف فات هذا الأمر على شاعر مخضرم كطلال سليم، باعتبار العنوان يحمل صوت الشاعر الضمني، وطبيعة هذا الصوت، خصوصاً أن الشاعر إمّا أن يحيا بصوته الخاص وإما أن يموت بأصوات الآخرين.
نصوص صاحب “شهوة الخريف”، رغم واقعيتها القادمة سواء من ذكريات الطفولة التي تكتظ قصائده بمفرداتها وهواجسها وأسئلتها الطفولية، أم من تراكمات حسية وانفعالات وجدانية، كونت عنده ثقافة شعرية عالية متعددة المشارب والاتجاهات، أرخت بثقلها على كاهل شاعرنا، إلا أنّ هذه النصوص تمتلك شيئاً من مفاتيح ما يسمّى “النص التأملي”، الذي يشتغل على المشهدية السردية والتفاصيل اليومية، تلك التي استدعاها سليم من أعماق موغلة في وعيه العابر في الزمن، وطوعها لما هو آنيّ ولحظيّ حيناً، ومنها ما رآه يمرّ تحت خائنة عيونه ليرصد بإحساس المتورط بالشعر ما تلتقطه كاميراه الداخلية بحساسية تقليدية إلى حدٍّ ما؛ الأمر الذي أصاب قصائده بنوع من الرتابة إن كان في صورته الشعرية أم تراكيبه اللفظية التي أفضت إلى عوالم معروفة، بحيث غابت عنها الدهشة، الميزة الحقيقية للقصيدة، وجواز عبورها إلى أعماق القارئ، فمخيلة الشاعر يجب أن تكون متحرّرة من كلّ قيد “قيد العادة، الموروث، المألوف”، كما أن الشاعر لا موضوع يؤطره بقدر ما هو موضوع نفسه وبتطرّف أيضاً، وهذا ما غاب، أيضاً عن “أحد عشر إصبعاً”، حيث بقيت ثيمة التهكم الطفولية هي السائدة في الجوّ العام لقصائد المجموعة بشكل عام، رغم لعب سليم على الشكل؛ ففي قصيدة “في طفولتي”، مثلاً، يحدثنا طلال سليم عن ذاكرة تواطئنا جميعاً، كقراء لهم ما لهم من ذكريات المدرسة، بمعرفتها خوض تفاصيلها، لذا جاءت القصيدة وكأنها ترجيع صدى لآلاف الأصوات والحكايا حول علاقته/علاقتنا بالمدرسة، يقول في أحد مقاطعها:
“في طفولتي لعبت الورق في الطريق إلى المدرسة/وكم نامت كتب الرياضيات في حقيبتي/
وكم كنت أخشى أن أوقظها”.
على مستوى الرؤية والمعالجة اللغوية البسيطة لهذه الرؤية، هي خالية من التطرّف اللغوي ذي الإيحاءات الغامضة، والمجهول العصيّ على الكشف بسهولة، كما أنّ سليم يترك مسافة أمان بينه وبين تداعياته الجوانية واشتغالاته التشكيلية على لغته، وهنا تقع مقتلة الشعر برتابته، لأنّ الشاعر يولد منتحراً ومندفعاً في مغامرة تهدّد باللاعودة بسبب تمرده على كلّ القيود، بل والأشياء في جملتها، ومنها الاستسلام لخديعة الطمأنينة الكاذبة في ألفة الجملة الشعرية، واتكائها المشبوه على الذاكرة فقط.
يختلف معيار الشعرية من عصر لآخر، فهي عند أرسطو، مثلاً، محاكاة وعند الرومانسيين “التغيير”، وعند الواقعية “القدرة في التعبير عن الوقائع”.
طبعاً أنا هنا أتكلم بصفة عامة، ويبدو أنّ طلال سليم منفتح على كلّ تلك الاتجاهات، فلديه المحاكاة، ومحاولة التغيير، وفسحة البحث عن واقع يعرف مفرداته الطبيعية، لكنّ النمطية هي من يحكم أدواته الشعرية، لأنّ الغنائية التي تسم كلّ شاعر، (وهي ما قصدته بصوت الشاعر الخاص في قصيدته) جاءت لديه مكتظة بأصوات عدّة، بحيث صار صوته غائماً وبعيداً عن منجزه الشعري عموماً. أمّا صوره الشعرية، فغالباً ما تبدو مقيدة لديناميكية القصيدة، وكأنّها عبء إضافي أو استطرادات لم يستطع شاعرنا التخلص من زوائدها، وربما ما ينقصها هو الحرارة الشخصية التي تنضج النص الشعري، وتخرج منه تلك النكهات الغريبة والأليفة في آن، وهذا ما افتقدته أنا كقارئ بشكل خاص في “أحد عشر إصبعاً”، كما أنّ المباشرة العارية في تقديم المضمون جعلت قصيدته تخسر الكثير من عوامل تكاملها واكتمالها.. يقول الشاعر طلال سليم في قصيدة “إلى أمي”:
أمي يا صاحبة الدموع العاريتين إلا من الدموع/يا شجرة فرت من جذورها نحو الله/نبحث عن عصافيرها المشردة/تعرّيت.. تعرّيت.. ياأمي…
تغيب هنا الفرادة والدهشة والاختلاف في ذلك الوصف المباشر الذي يحمل الكثير من الإنشائية التعبيرية، وهذا ما ينسحب على العديد من قصائد المجموعة.
تمتاز بعض القصائد بالرشاقة والخفة، خصوصاً تلك التي اعتمدت النمط التكثيفي للنص، مقابل طرح الأحجية أو الفكرة، إلا أن محاولة دس الحكمة في بعض مفاصلها أفقدتها بريقها الخاطف ولمعانها غير المتوقع كما يفترض بها، كما في قصيدة “تمرّد ومحاولة”، وقصائد أخرى.
يقول صاحب “أحد عشر إصبعاً” في إحدى قصائده غير المعنونة:
“أيها الفران المتعب/أطفئ نارك/لا أفواه لنا لنأكل خبزك”.
تمام علي بركات