دخان وأحبة وحقيبة هجرة يائسة. لحبق اطفال مدرسة عكرمة ..المقطوف صباحا ..سنبقى
كنت قد انتهيت من توضيب امتعتي القليلة، وجلست إلى احدى نوافذ البيت ادخن سيجارة مع كاس من القهوة، منتظرا مرور أول طائرة لأتعلق بدواليبها، أو مرور سرب من الطيور المهاجرة في السماء، تلك التي كنا نرقبها صغارا، فرحين بطيرانها المذهل على شكل دوائر تتسع حينا وتضيق، لأطلب اليها بحق النداءات الكثيرة التي بح صوتي وأنا اسلم عليها متمنيا عليها ان تعود قريبا لتفتتح العطلة الصيفية، وتعفينا من برودة مقاعد الدراسة، أن خذيني معك إلى حيث تريدين، لا يهم طالما اني سأكون بعيدا عن بلاد القهر هذه .
مع كل خيط دخان تسرب من نسيس السيجارة المشتعلة، اخذت تظهر رسومات دخانية في الجو، وراح الدخان يتلوى على هيئة صور وتواريخ وأمكنة:
غدير وابتسامته العذبة القباب، خجولة كأنها قمر يختبئ بغيمة بيضاء، وعيونه تشع طيبة وألفة ورجولة، اليوم الاول له في المدرسة، بكاؤه عندما ذهبت، صوته الطائر بالهواء كسنونو ليخبرني: تمام تعا لا تروح.
بلقيس تجرب اولى انفاسها في هذا العالم، اعطتني اياها الممرضة، ملفوفة بقماش ابيض ناصع، عندما نظرت اليها لم اجدها اولا، كان وجهها اشد بياضا من الغطاء، كنت قد قطفت لها بضع ياسمينات من شجرة ياسمين اتكأت على جدار احد مشافي مدينة جبلة، تراقب الاطفال القادمين وتشم قلوبهم، لتقدم دراسة للطبيعة تخبرها فيها: إن كان يجب على الياسمين البقاء في هذه البلد أم لا.؟ وبقي.
اول كلمات همست بها بأذنها الصغيرة، اهلا وسهلا يا بنتي، افرحت قلبي حفظك الله يا حبيبتي، كيف تحركت اصابعها اللينة وهي تحاول ان ترى النور للمرة الاولى.
سحبة اخرى وشفة قهوة بردت منذ دمعة، راح الدخان يرقص: إنها جامعة دمشق، مدرج كلية الحقوق، المقعد الثالث إلى النافذة، شعرك الاسود يتكئ محسودا على اكتافك، وانفك الصغير يعلوه احمرار خفيف متقدما قسماتك قليلا ليخبرك: أن تقدمي..الفل دربك.
يدك تنام متعرقة بين كفيّ وأنا اوصلك مساء إلى حيث تسكنين، مستغربا من كون الرجال في حيكم، يمرون امامك ويتابعون سيرهم بشكل طبيعي دون ان تنفطر قلوبهم:
كم تحب ان تبالغ يا حبيبي.
من أنا! ليس رجلا من شاهد عينيك ولم يتمن ان يقتلني ليحظى بك.
حبيبي ..ثم ضمة على سفرة الدرج، أشم فيها رائحة الله وأول مطر تشريني يسلم على التراب في قريتي، والخبز لحظة خروجه من النار، كلها مجتمعة، إلا أن عطر جسمك كان هو السيد، هو من يأمرني أن اذوق ريقك الرمان.
سحبة ودخان يرسم وجه صبية وعدتني أن تزورني عندما تأوب من البلاد الماطرة التي تفطر قلبها حزنا.
أي نعمة انا بها مع هذه الذكريات، أي فرح يحمله قلبي ولا اشعر، أي حياة اخرى او مكان اخر، سيمنحني اياكم دائما بنفس اللحظة، طازجين وكأن الزمن توقف جريانه عندكم.
انتبه من شرودي على ألم في اصبعي، السيجارة احترقت كلها، إلا أن الدخان، ما يزال يتشكل في الخارج، مازال يدلي بحججه البيضاء دون سوء، ملتهما بعصاه افاعي افكار الهجرة التي تعلّم بالقلب، كلما شاهدت طفلا سوريا آخر، يلتحق بموكب النور الذي لا ينتهي.
اطفال سورية يرممون السماء بضحكاتهم.. كيف لا نبقى إذا.
تمام علي بركات