ثقافة

“اليوم يومك” ..كاميرا خفية تهدد حياة أسرة بالخراب

يبدو أن طيبة السوريين وفقر حالهم، سيظلان محط استهداف الإسفاف أينما توجهوا وكيفما ذهبوا، وكأنهم لا تكفيهم مصيبتهم التي جعلتهم في غفلة من الزمن يصابون بشيب الروح والقلب وشيخوختهما حتى تأتيهم الكاميرا الخفية لتصب ضمور مخيلتها وضحالة أفقها فوق حاجاتهم ورغباتهم البسيطة، في الوقت الذي تلاحقهم فيه كل كاميرات العالم الخفية والمرئية لتعرض ملهاة مأساتهم وكأنها أحداث تدور على كوكب المريخ وليس في بلد الحرف الأول في التاريخ وفي أقدم عواصم العالم حضارة وعراقة.
غاب سحتوت وشقدوحة ورضوان “ثلاثي الاستفزاز السمج” ليطل علينا برنامج “اليوم يومك” فكرة وإخراج الفنان “طارق مرعشلي” وتقديم الفنانة القديرة (ناهد حلبي).       اليوم يومك برنامج يعتمد فكرة الكاميرا الخفية ليرصد متغيرات النفس البشرية السورية، بعد أن يقوم معدو هذا العمل المأخوذ عن أحد البرامج المصرية التي تحمل نفس الاسم، بوضع الناس الذين تتكرم عليهم كاميرا العمل بتصويرهم، أو أخذ لقطات بعيدة وقريبة لوجوههم بملامحهم المرهقة، داخل دائرة التحليل النفسي الخاص بفريق العمل الفرويدي بالفطرة، وكيف لا وهم يشتغلون على إعادة اكتشاف الثغرات الموجودة في النفس البشرية من جديد بعد أكثر من ألفي عام على اكتشافها، لينالوا بذلك براءة اختراع اللعب على مشاعر الناس واستغلال رغباتهم وحاجاتهم كما أشرت، ليجعلوا من تلك الابتسامات المكسورة والخواطر المخذولة مادة دسمة لبرنامج المفروض أنه مصنوع لغرض الترفيه الخفيف الظل، وليس لنبش جوّانيات الناس والتلصص على عوالمهم الخاصة، بحجة تقديم العظة ورصد منسوب التغير الجديد لأخلاق السوريين، وهنا تكمن المشكلة، باعتبار أن خصوصية هذا الموضوع يجب تناولها بجدية ودراسة متأنية وتقديمها بطريقة موضوعية، يحتملها برنامج حواري، لا برنامج الكاميرا الخفية، بتغير أسمائها وتشابه مضمونها في عالمنا العربي؛ المضمون القائم على استغفال الناس واستفزازهم واستغبائهم، في حين تقدم الكثير من الدول الغربية هذا النوع من الفرجة بالكثير من البساطة والعفوية المدروسة، بحيث إنهم لا يتعاملون مع الناس كفرائس متسامحة مهما غار السهم في دواخلها وآذاها، كما يحدث في شرقنا السعيد.
إحدى حلقات “اليوم يومك”، التي بثتها إحدى القنوات الترفيهية تزامناً مع  بث العديد من المحطات الفضائية لصور المجازر التي يرتكبها أصحاب الكاميرات المباركة من جبهة النصرة والمعارضة “المعتدلة” كما تسميها أمريكا ،بحق السوريين بمختلف أعمارهم، كصور المجزرة الخسيسة التي أوقعتها معارضة المعتدلين! بمدرسة ابتدائية للأطفال في حي عكرمة بحمص، عملت على وضع إحدى العلاقات الزوجية على محك اختبار إنساني لا يجوز لا أخلاقياً ولا مهنياً، وذلك عن طريق الاتفاق مع الزوج الطيب على وضع زوجته كهدف لاختبار مشاعرها حيال زوجها مقابل الإغراء المادي، حيث يمثل الزوج دور شخص ربح سيارة عن طريق المصادفة من أحد معارض السيارات، ويعمل على تجهيز زوجته نفسياً للحالة الجديدة الرائعة التي ستطرأ على حياتهم، لتسهر زوجته المسكينة طوال الليل وهي تفكر في لون السيارة ونوعها، وكيف ستتحقق أمنيتها بأن تهديها إلى ابنتها التي نجحت في امتحان الشهادة الثانوية.
في مكان الجريمة المصورة، تحضر الضحية وزوجها الطيب والبسيط الذي لا أعلم كيف تم إقناعه بهكذا موضوع، خصوصاً وأنه قال إنه أراد اختبار زوجته، إن كانت تحبه ومتمسكة به بعد 23 سنة زواج، أم ستتخلى عنه مقابل سيارة.
أثناء وجود الزوجين في المعرض الذي نصب في داخله الكمين، دون أن يفوت الكاميرا المختبئة في إحدى الزوايا المعتمة أن تبين بعض أنواع السيارات وماركاتها، تبدأ اللعبة الفرويدية بتمثيلية تقدم للزوجة كطعم لاستدراجها إلى المصيدة النفسية، وتقوم هذه التمثيلية على أن لمعرض السيارات شرطاً وحيداً كي يسلم السيارة إلى رابحها؛ وهو أن يكون عازبا.
الممثلون المشتركون في هذا المقلب الرخيص هم رجل وزوجته وولداه، يصر الممثل على أنه يريد السيارة حتى لو أدى الموضوع إلى الطلاق، دون أن يأبه لبكاء زوجته التي ترفض السيارة بهذا الشرط وتتوقع منه الأمر عينه، لكنه يخذلها ويخذل طفليه المتباكيين. في تلك الأثناء يكون الزوج والضحية زوجته والكاميرا الخفية ينسجون بقية المشهد؛ إذ يطلب الرجل إلى زوجته أن تدّعي أنها قريبته وأنه أعزب ليحصل على السيارة، توافق الزوجة طالما أن الموضوع كذبة بيضاء مقابل حصولهما على حلمهما، تتطور الأمور لتصبح مديرة المعرض، متيمة بالزوج ويتفقان على اللقاء والعشاء بعد العمل، لعل وعسى أن يقع النصيب ويتزوجا.
الزوجة الضحية في هذا الوقت تحاول السيطرة على أعصابها المتشنجة، وهي تحاول أن تشيح بوجهها يمنة وشمالاً كي لا يبدو انفعالها واضحاً (تصوروا مدى الاستهتار بعواطف الناس ومشاعرهم، وخاصة في أمر مماثل، اللعب على وتيرة الغيرة وحرق الأعصاب بنيرانها).
تعود الممثلة التي سبق وأن أجرت حديثاً جانبياً مع الزوجة، عرفت من خلاله أنها متزوجة، وهذا زوجها الرابح المحظوظ، تعود لتتساءل وهي تبكي وتسأل الموظفة: كيف أعطت لهذين الزوجين هديتهما وهما لا يحققان شرط الربح كونهما متزوجين، ولم تفعل ذلك معها ومع زوجها الذي طلقها تنفيذاً للشرط.
هنا تظهر الزوجة الضحية بموقف لا تحسد عليه فعلاً؛ فها هي بعد أن صبرت على فكرة أن زوجها سيكون مع امرأة أخرى، ظهرت بمظهر الكاذبة، لتبدأ بالتبرير والارتباك المحرج لسيدة في عمرها، تذهب الموظفة العاشقة من النظرة الأولى بحجة ما تاركة الزوج يتلاعب بأعصاب زوجته، وهو يختبر مشاعرها وإخلاصها أمام الكاميرا وملايين المشاهدين، سائلاً إياها: إذا اقتضى الأمر أن تصل بهم الأمور إلى الطلاق مقابل الحصول على السيارة فهل ستوافق؟
بغض النظر عن موقف الزوجة من طلبه، ألم يفكر صناع هذا العمل في النتائج التي ستؤول إليها هكذا اختبارات لا إنسانية، حتى لو انتهى الأمر بإخبار الضحية بأن انهيار أعصابها وفقدانها مصداقيتها ووضعها موضع اختبار خطر، ليس سوى مزحة للكاميرا اللصة الغائرة في العتمة تتصيد ردود أفعالها المحزنة وكلامها الذي من المفروض أنه حديث خاص يدور بين زوج وزوجته، في النهاية ترتسم تلك الابتسامة المكتظة بالألم على وجه المرأة وتلوّح بيدها للكاميرا.
في نهاية البرنامج تخرج علينا الفنانة “ناهد حلبي” لتسدينا النصيحة أو العبرة التي يجب أن نأخذها من البرنامج الذي فكر فيه ابنها “طارق مرعشلي” وأخرجه أيضا، موصية إيانا أن ننتبه، فالأخلاق والقيم الإنسانية التي تربينا عليها تغيرت، والنفوس أعمتها الفلوس ولم تعد كما كانت.
لقد وصلت الفكرة الفريدة حقا يا فنانتنا الكبيرة، لكن”حلبي” لا تنسى أن تؤكد أن الدنيا مازالت بخير، وأن ننظف أسناننا قبل النوم بمعجون.. اليوم يومك. وعجبي على قولة أخوتنا المصريين.
تمام علي بركات