ثقافة

في قراءة للمشهد النحتي في سورية النحات غازي كاسوح: عندما تبلغ المادة امتلاءها يعلن الشكل اكتماله

من قريته الصغيرة الغافية على كتف المتوسط (حصين البحر) القرية التي تفيق على نسائم الفن والثقافة بدأ الفنان غازي كاسوح مسيرة إبداعه حيث اختار لنفسه مساراً وسط دروب الإبداع يحاكي رؤاه وتصوراته عن هذا العالم، وخط لفنه طريقاً يوازي بعض ماهو موجود من إبداعات ومدارس للفن التشكيلي يخالف بعضها الآخر وسط حالة توق وبحث دائم لكل إبداع جديد، شارك مؤخراً في ملتقى طرطوس للنحت على الخشب بعنوان (سورية أنت الأجمل) وللوقوف على تفاصيل تجربته الإبداعية بدأ حديثه معنا عن بداياته مع الفن إذ يقول: “بداياتي الأولى كانت مع الرسم حيث شاركت أثناء دراستي في الكثير من الفعاليات والمعارض التي كانت تنظمها منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة بعدها دخلت كلية الفنون الجميلة التي ساهمت في صقل موهبتي من خلال التعرف إلى التقنيات في مجالي النحت والتصوير. كما شاركت في الكثير من المعارض والملتقيات داخل وخارج القطر وآخرها كان (ملتقى رواسي للتصوير والنحت على الخشب – تموز2014) انتهى بإقامة معرض فني للأعمال المنجزة في (صالة عامر) في جبلة، ومعرض فني في (صالة: ب- البيل) في بيروت . ويضيف الفنان كاسوح: أنا ابن البحر و شجرة الزيتون  استهوتني منذ الصغر بتشكيل جذوعها وتكويناتها المختلفة كما استهواني شاطئ البحر بما يحتويه من أشكال غريبة ومختلفة للحجارة والقواقع والأصداف الموجودة على شاطئه، لكن النحت كان الأقرب لنفسي، ومع وجود العوامل التي ذكرتها آنفاً كان من الطبيعي أن أتجه أكثر نحو فن النحت فكان أول عمل نحتي قمت بنحته من حجر الكدان. وقد تنقلت خلال مسيرتي الفنية في مجال النحت من المدرسة الواقعية إلى التعبيرية. فيما أعمالي الحالية يغلب عليها الطابع التجريدي التعبيري وأميل في بعض الأحيان لإظهار الشكل بطريقة ميتافيزيقية تعبّر عن حالة الإحساس بالخطوط وتناغمها الموسيقي في ابتكار التكوين الذي تتشكل المنحوتة من خلاله.
ويضيف كاسوح: إن إحساسنا بالجمال وانفعالنا به إنما يتحقق عندما نستطيع أن نتذوق الوحدة بين منظومات العلاقات الشكلية ما بين الأشياء والأشكال التي تدركها حواسنا، ففي التكوين النحتي تتكون منظومة العلاقات الشكلية والعلاقات البنائية المترابطة هندسياً بين المادة وأسلوب تشكُّلها، وبعد مراحل من العمل، وعندما تبلغ المادة امتلاءها يبلغ الشكل اكتماله. ويرى كاسوح أن الفنان السوري عليه عبء كبير في هذه المرحلة لمحاولة إعادة صياغة الفكر المكون لمجتمعنا السوري، وعن المشهد الثقافي السوري اليوم يقول: لاشك أن الأزمة التي يمر بها الوطن والمتمثلة بالحرب الكونية على أرضه وتراثه فرضت سلبياتها على كامل الحياة السورية اليومية على كل الصعد. عموماً إن أربع سنوات من الحرب الخارجية وبهذه الشراسة، ومع استخدام كافة أساليب التزوير والتضليل اللاأخلاقية كفيلة أن تدمر أي بلد، إلا أن إيمان أبناء هذا الوطن بترابه هو الذي رسَّخ عقيدة الصمود وجذَّر الإنتماء لحضارته بشكل أكبر وأكثر وعياً، وإدراكاً لحضارته شكلت الثقافة جزءاًَ من كل وهي الأكثر تأثراً بحالة الأمن والأمان، فبدون استقرار لايمكن أن تزدهر الثقافة وتتطور بشكل طبيعي ولتفعيل الحياة الثقافية لابدَّ أن تتضافر الفعاليات كلها وتتعاون من أجل الخروج من هذه الأزمة بأسرع وقت.
وحين سألته عن المشهد التشكيلي وتحديداً المنجز النحتي السوري؟ أجاب: لقد مرَّ المحترف السوري بمراحل زمنية متعددة وأفرز وجوهاً وأسماء كثيرة، وإذا كان لنا أن نؤرخ لبدايات المحترف النحتي والتشكيلي الحديث فإننا نقول إنه يعود تقريباً إلى بدايات القرن الماضي، طبعاً نقول المحترف النحتي الحديث، أما النحت السوري فإنه يعود إلى آلاف السنين مع بزوغ فجر الحضارات الإنسانية الأولى، والتي ليس من سبيل الصدفة أنها انبثقت من هنا، من هذه الأرض السورية وأرض بلاد الرافدين: أرض سورية والعراق والتي هي في الحقيقة أرض واحدة، أرض الأبجدية الأولى والرُقُم الأولى والشرائع الأولى. وللإشارة إن لفظة سورية مأخوذة من لفظة (سور – إيا ) والتي تعني فيما تعنيه: أي أرض الألهة. وبالعودة إلى المشهد التشكيلي بشقيه التصويري والنحتي فأنا أقول وهذا رأي شخصي: إن التصوير يتفوق على النحت كمنجز إبداعي بل ولأكن صادقاً لايمكن المقارنة بينهما لا على مستو ى الكيف ولا على مستوى الكم، ففي حين نرى أن هناك تعددية في الأساليب والاتجاهات والأفكار والرؤى…إلــخ، في جانب التصوير، فإننا لا نرى أي تنوع أو تعدد أو اختلاف في المنجز النحتي، طبعاً مع استثناءات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، بل ولأكن أكثر جرأة ومصداقية مع نفسي ومع الآخرين أقول: إن المشهد النحتي السوري اليوم هو مشهد تقليدي في منجزه على الرغم من وجود أسماء مشهورة ومعروفة إعلامياً.
ونسأله: لكن مالذي تعنيه (بالتقليدي)؟ خصوصاً وأن عدد الملتقيات النحتية والمهرجانات الثقافية كان وفيراً قبل الأزمة.؟!
فيجيب: إن كثرة عدد الملتقيات في بلد ما – على أهميته – ليس دليلاً كافياً على تطور فن النحت في هذا البلد أو ذاك. وما أعنيه تماماً أنَّ المحترف السوري النحتي تحديداً هو تقليدي، أي أنه يفتقد لخصوصية الإبداع والابتكار، بمعنى: نحن نرى تجارب وأعمال نحتية وفيرة من حيث الكم، ولكن وبكل أسف هناك تشابه كبير على مستوى الكيف، وكأن الأعمال النحتية تكرر بعضها رغم اختلاف أسماء الفنانين – طبعاً– مع بعض التحوير أو التعديل البسيط ما بين فنان وآخر وكمثال بسيط أقول: في ملتقى يضم عشرة فنانين قد نجد خمسة منهم يتشابهون إلى درجة كبيرة جداً، ليس فقط على مستوى الموضوع والرموز المشكلة للمضامين، بل وحتى على مستوى الأسلوب ومستوى تعبيرية شكل العيون في المنحوتة، وهذا أمر من الناحية النقدية مؤسف جداً، لذلك إذا كان الرواد قد قدموا نتاجهم بطريقة تفكير معينة، فإنه علينا نحن الجيل اللاحق ألانقلدهم لا بنتاجهم ولا بطريقة تفكيرهم، لقد كانت لهم مشاغلهم ومشاكلهم وطريقة تفكيرهم وأدواتهم الخاصة، لذا ما المانع أن تكون لنا طرائق تفكير جديدة تخصنا نحن وتواكب العصر الذي نعيش فيه! وأذكر على سبيل المثال:  ملتقى سابق للنحت على الخشب للشباب والذي أقيم صيف العام الماضي؛ على الرغم من أهمية التظاهرة ثقافياً وإعلامياً وحضارياً وتحديداً في هذا التوقيت وأهمية الجهد الذي بذل لإنجاحها، إلا أننا إذا ما نظرنا إلى الأعمال المنجزة نظرة نقدية علمية حيادية وبكل الحب – فإنَّ الأعمال أو النتاج النحتي الذي أنجز، وباستثناء عمل أو عملين تكاد تكون متشابهة – على الرغم من أن الذين أنجزوا تلك الأعمال هم شباب تم انتقاؤهم بمسابقة. أقول هذا الرأي الشخصي بكل حب وغيرة على هذا المحترف الذي يستحق كل الدعم والرعاية. وإذا كان لأحدٍ ما أن يقوم بنقد النحت السوري فالأولى بنا نحن الفنانين أن نقوم بذلك قبل غيرنا. أما عن الملتقيات النحتية والمهرجانات، فالحديث ذو شجون ولا أعتقد أن المجال يسمح بذلك الآن.
وحول النحت النصبي أو الأعمال النصبية والدور الذي يؤديه الفنان فيها ودور المؤسسة  أجاب: حقيقة هذا موضوع في غاية الأهمية ويجب إيلاؤه ما يستحق من العناية والنقاش الجاد، فالعمل النصبي يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل بوصفه رمزاً حضارياً ثقافياً وفكرياً يختزل ثقافة وحضارة ووعي الشعب، فالنُصُب التذكارية ظاهرة ترافق الإنسان منذ القديم ولقد تبدلت أدوارها ومضامينها حتى وصلت إلى العصر الحديث حيث تنوعت مفاهيمها ومضامينها مع التأكيد على ارتباطها بالحدث الإنساني، من خلال ارتباطه بشخصية أو حدث تاريخي سياسي أو أيديولوجي وأدواره الاجتماعية والسياسية، والنصب التذكاري بات يرافقنا في كل مكان في الحديقة والشارع وأمام المؤسسات الحكومية والأندية والجامعة والمدرسة إلخ، ومن هنا يجب إعادة النظر بطريقة التفاعل معه من قبل المؤسسات الراعية لإقامته، والفنان الذي يبدع فكرته ويبرزها على شكل منحوتة. لا شك أنَّ دور الفنان مهم ولكن من يشاطره المسؤولية في الاهتمام هي المؤسسات الراعية لإنشائه. لأنه من خلال المضمون الفكري الذي سيجسده سيصبح رمزاً ثقافياً، وسيرتبط تدريجياً وبمجرد وضعه في ساحه عامة بالمعنى الدال وهو إشارة تذكارية بحدث تاريخي، ومن خلال قيام الفنان بالتأكيد على هويته الاجتماعية في ترسيخ الذكرى التاريخية التي أنتجته ينهض النصب التذكاري وكأنه (مسمَّى) لمجموعة محددة من القيم هدفه البقاء والتغيير بلغة تشكيلية تختزن منظومة الأفكار والمضامين التي يسعى إليها الفرد والجماعة بلغة نحتية يجب أن تتصف بالبلاغة التعبيرية جمالياً من خلال إتقان الفنان لأدواته، وبالتالي إن تكليف جهة معينة لفنان ما بالقيام بتنفيذ عمل معين هو مسؤولية اجتماعية ثقافية أخلاقية، يجب ألا يستهان بها مطلقاً. وعليه أقول: إنه يجب علينا أن نرتقي إدارياً بانتقاء اللجان المشكلة لإختيار الفنان لهذا العمل أولاً وثم َّ من تأتي باقي التفاصيل، فالمنحوته أو النصب هي فعالية محققة لتاريخ الشعب وفعالية إبداعية تعبر عن إجلال المجتمع لهذه الفعالية الفردية والجماعية الهامة التي ينبغي نقلها للمستقبل، وكأنها شعلة تتوارثها الأجيال جيلاً  بعد آخر.
وعن أهمية ملتقى طرطوس للنحت على الخشب الذي شارك فيه النحات كاسوح يؤكد أن أهمية هذا الملتقى تأتي من أهدافه في تفعيل الحراك الثقافي الذي يكاد يكون متوقفاً والذي كان أثره كبيراً على الحياة العامة والحياة الثقافية للمجتمع السوري، كما أن مثل هكذا ملتقى له دوره الفاعل في تنشيط الحركة الفنية التشكيلية عن طريق تبادل الخبرات بين الفنانين بالإضافة إلى الحواريات الثقافية المرافقة أثناء فترة الملتقى .إضافة للتأكيد على استمرارية النشاطات الثقافية والفنية على الرغم من الظروف التي تمر بها سورية حالياً، فنحن بحاجة لعشرات الملتقيات الفنية والثقافية لنشر الوعي الثقافي وإظهار المنتج الجمالي كحالة ثقافية يومية كي يتفاعل معها الجمهور لنشر الثقافة البصرية بعد الغزو الثقافي والفكري الذي تعرضنا له والذي يعمل على طمس معالم حضارتنا ورؤانا البصرية، علماً أنه على أرض سورية نشأت أقدم حضارة قدمت فنون النحت والتصوير للعالم. كما يشير الفنان التشكيلي إلى اللفتة المميزة من قبل إدارة شركة انترادوس للتسويق السياحي والتي تمثلت برعاية ملتقى النحت على الخشب في طرطوس والأثر الكبير الذي يمكن أن يكون بداية لتحفيز المؤسسات الوطنية الخاصة لرعاية ونشر الثقافة والفنون على اختلافها في بلدنا الحبيب. ويرى كاسوح أن على الفنان السوري عبئاً كبيراً في هذه المرحلة لمحاولة إعادة صياغة الفكر المكون لمجتمعنا ككل، مشيراً إلى أن مدننا تفتقر حالياً إلى الكثير من المعالم الجمالية التي أبدعناها في الماضي عبر تاريخنا ويجب أن تمتلئ مدننا وحدائقنا ومعظم الأماكن العامة بأعمال فنية تغني المكان وترفع من الذائقة الفنية إلى أفق أبعد ومدى تأملي يحاكي العقل البشري في تطوره المتسارع، فهذا الملتقى الذي يضم فنانين من مختلف أنحاء القطر قدموا مجتمعين على حب سورية من أجل حوار دافعه ثقافة الود والجمال حيث يشاركون بعضهم البعض في الإبداع على جذوع أخشاب سورية لخلق الجمال من يباس جذوعها لتنبض بالحركة والحياة.

بطاقة تعريف:
الفنان غازي كاسوح – من مواليد حصين البحر 1972 – إجازة في الفنون الجميلة- مشارك في معظم المعارض والمهرجانات الجماعية الرسمية السورية، وفي عدد كبير من المعارض الخاصة في سورية– لبنان– الكويت – الشارقة – وفي عدد من الملتقيات النحتية (ملتقى طرطوس 2010- ملتقى أوغاريت للنحت والتشكيل العربي 2009- مهرجان جبلة الثقافي 2010- ملتقى رواسي للتصوير والنحت على الخشب- 2014 – ملتقى طرطوس: سورية أنت الأجمل 2014 – منظم ومشارك في ملتقى حصين البحر الثقافي للنحت والتصوير 2008. – تنفيذ أعمال الديكور لعدد من البرامج والأعمال الدرامية السورية – تنفيذ (لوغو الأورنينا) 1 م × 1 م ونحت مباشر للأورنينا – مهرجان الأغنية السورية 2009 – له مقتنيات في فرنسا وروسيا والإمارات والكويت وبيروت وفي سورية من قبل وزارتي الثقافة والإعلام- وله عمل نصبي مسجل في (السجل العالمي للنصب التذكارية والأوابد – متحف الميتروبوليتان في نيويورك)2005.
جمان بركات