وضاح رجب باشا يتناول القيمة الفنية لأغنيات “دموع الحبّ”
شُغف العالم العربي برومانسيات السينما وموسيقا الزمن الجميل التي أُطلق عليها فيما بعد “كلاسيكيات” وجاءت بتوقيع عباقرة من الشعراء والكتّاب والملحنين، رحلوا وتركوا لمسات رومانسيتهم خالدة تنير عتمة الواقع الحالي.
وفي المحاضرة التي ألقاها الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا ضمن سلسلة محاضرات موسيقا الزمن الجميل في المركز الثقافي العربي في (أبو رمانة) حلل القيمة الفنية لأغنيات فيلم “دموع الحب” 1935 موسيقياً، وهو من بطولة محمد عبد الوهاب والمطربة نجاة علي، وعدّ من أجمل الأفلام الرومانسية للسينما الغنائية التي ظهرت في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، واعتمدت على الأغنية كمحور أساسي لإنجاح الفيلم في حين بقي التمثيل ضعيفاً، وكما وصفها بأنها كانت “سينما غنائية وليست درامية” وقد اختار الباحث هذا الفيلم لأنه يضم أجمل أغنيات محمد عبد الوهاب، ويسرد قصة حبّ رومانسية ملوحة بالألم والفراق، وبذل المحاضر جهداً كبيراً للحصول على الأغنيات لاسيما أن الفيلم موجود على “سيديات” مشوّهة من حيث الصوت وهو غير موجود حالياً على النت، معتمداً على الأسلوب التحليلي السردي الارتجالي مستنداً إلى الشاشة التي عرضت مشاهد مفصلية من الفيلم وركز على صور تبيّن الإكسسوارات والأدوات المستخدمة آنذاك مثل المايك، إضافة إلى كلمات القصائد التي كتبها أحمد رامي باستثناء أغنية واحدة كتبها حسين أحمد شوقي وتضمن الفيلم أجمل أغنية تانغو لمحمد عبد الوهاب “سهرتْ منه الليالي”.
قصة الفيلم مستمدة من الشرق
بدأ المحاضر بالحديث عن قصة الفيلم المستمدة أحداثها من رواية “ماجدولين” للكاتب الفرنسي ألفونسو كار، ومن ثّم قام بإعادة كتابتها وليس ترجمتها الكاتب المبدع المنفلوطي لأنه لم يكن يتقن الفرنسية فجاءت بصياغة رومانسية آخاذة ومشاعر دافئة ممتزجة بعبارات محمّلة بالصور والمشاعر، باسم “تحت ظلال الزيزفون” قام بإخراج الفيلم المخرج محمد كريم في الزمن الذي كان فيه الإخراج غامضاً وغريباً بالنسبة لكثيرين، وهنا تطرق المحاضر إلى خصوصية السينما آنذاك إذ كانت ضعيفة لم يتمكن الممثل من القدرة على الأداء وتمثل الشخصية يبدو هذا بوضوح في الحركات المفتعلة والجمود بالإلقاء وعدم إقناع المشاهد ،على خلاف مانراه الآن على الشاشات السينمائية والتلفزيونية. وتدور أحداث الفيلم وفق مثلث يدور في فلك عالم العواطف (الحب والخيانة والانتقام) وبرأي الباحث أن الكاتب الفرنسي استمد فكرتها من الشرق لرومانسيتها وشفافيتها.
المونولوج والديالوج
وتنقسم أغنياته إلى قسمين، الأول: يغني القصائد والثاني يأتي وفق حوارية غنائية “ديالوج” تساير الأحداث وتتزامن معها بطريقة تعبيرية، فمحمد فكري البطل (محمد عبد الوهاب) شاب فقير الحال لكنه موهوب وصوته ساحر ومولع بالموسيقا يضطر للعمل سائقاً عند تاجر ثري، فيقع بحبّ نوال المطربة (نجاة علي) ويهيم بها فيختلسان من الزمن ومضات خاطفة يلتقيان فيها تحت خميلة شجرة الزيزفون، لتصغي لصوته الشجي وتبادله الغناء وتسمعه أرق مفردات العشق، فيتوقف الباحث عند أغنية “يللي بتنادي وليفك” من مقام النوا اترا وتعبّر عن الحبّ الحالم “ياللي بتنادي وليفك والفؤاد حيران عليه”. والأمر اللافت الذي أثاره الباحث أن عبد الوهاب في أفلامه السبعة كان أنانياً يحتفظ لنفسه بالجمل الموسيقية القوية لأنه لم يقتنع بدور الممثلة المؤدية الغناء ،إلا في هذا الفيلم إذ منح نجاة علي جملاً موسيقية مميزة من ألحانه إيماناً منه بأبعاد صوتها القوي، تتصاعد الأحداث وتتوطد علاقة الحب في لقاء تبوح فيه نوال بأحلامها بأن يشيّد لها محمد فكري قصراً على هضبة يطل على شلال جدرانه وستائره زرقاء تعكس صفاء السماء، فيتبادلان حوارية “ما حلا الحبيب المحمّلة بالصور البيانية وبجماليات إشراك الطبيعة بالغرام من مقام البيات”.
“آدي النسيم يشكي غرامه/ والغصن يسمع منه ويميل”
وهنا توقف الباحث ملياً محللاً أبعاد اللحن وتوافقه مع معنى المفردة مثل “اسمع” بإيقاع صاخب . وتبدو براعة عبد الوهاب في ختام الحوارية إذ أضاف تقنية توزيع الأصوات للجمل اللحنية لتأتي بصوتين مختلفين في الوقت الذي لم تكن فيه هذه التقنية معروفة في الشرق وكانت مستخدمة في الغرب، ومن خلالها يكون أضاف شيئاً جديداً إلى موسيقانا الشرقية.
ومن الحوارية انطلق الباحث إلى أغنية تعبّر فيها المحبوبة عن فرحتها بحبيبها فتغني نجاة “يافرحة القلب” من مقام السيكا وللأسف الأغنية غير موجودة بالصوت وتقول:”يافرحة القلب المشتاق/ للقرب منك يا حبيبي”.
في هذا القسم من الفيلم أقحم عبد الوهاب أغنية وطنية حماسية من خلال عمله مدرساً في معهد الموسيقا جاءت بعنوان “أيها الخفاق” وفق مقام حماسي مقام العجم على شكل نشيد وفيه تغيير جذري بالإيقاع والأداء، وغدت من أجمل الأغنيات الوطنية.
التانغو والأكورديون
مع تصاعد الأحداث وتشابكاتها يتغير المسار الدرامي للفيلم وكذلك الدرامي إذ يتعرض محمد فكري لعاصفة تزلزل حياته حينما ترضخ حبيبته لرغبة والدها وتتزوج من شاب ثري من طبقتها المخملية وتتخلى عن أحلامهما وعن القصر الأزرق، فيشهد مشهد زفافها حدثاً مفصلياً في الفيلم حينما يبكي بحرقة ووجع وينظر إليها من بعيد وسط حبال المطر يستحضر شريط حبه ويواجه مصيره فيسقط فاقداً الوعي، حينما يتناهى إلى سمعه صوتها تقول لزوجها “إنت حياتي وما ليش حياة من بعدك” وهذه الجملة ستحرك الأحداث فيما بعد وتحدد نهاية الفيلم.
ويحلل الباحث في هذا المشهد وقع المأساة التي انتشلت محمد فكري إيجابياً ودفعته ليعمل ويعلو ويعلو حتى يصبح مطرباً مشهوراً وثرياً، ويشيد لنوال قصر الأحلام ويغني أغنيته المشهورة قصر الأماني من مقام جاكارد التي تترجم ألمه وحزنه وتساؤلاته الدائمة لهجرانها له “فيعرض الباحث المشهد التمثيلي للأغنية فنرى عبد الوهاب يتجول في القصر ليقف ويتأمل بحزن صورة نوال في غرفة النوم يناجيها.
“يا نوال فين عيونك اشتكي لك/هم قلبي وذل حالي”
ويشتهر عبد الوهاب بموال “في البحر لو فتكم في البر فتوني” ويحلل الباحث نغمة الحزن في صوته وقيمة هذا الموال الذي صُنف من أجمل مواويله، ويتابع ليصل الأغنية التي حظيت بشهرة كبيرة وكان فيها تغيير جذري من حيث الجمل الموسيقية والأداء وهي، “سهرتْ منه” كلمات حسين أحمد شوقي، وتميزت بالتجديد الذي أضافه عبد الوهاب باستخدام موسيقا التانغو من مقام النوا اترا واستخدامه آلة الأكورديون كأشهر آلة غربية ضمن الإيقاعات الراقصة.
“سهرتْ منه الليالي/ ما للغرام ومالي
في الوقت الذي اشتهر فيه محمد فكري خسر فيه زوج نوال كل أمواله بالقمار فينتحر لتجد نوال نفسها غريبة في فرنسا مع طفلتها الرضيعة ، فتعود إلى مصر لتكتمل المأساة بوفاة والدها بعد إفلاسه ، فتستعطف الحبيب بمقابلته في الغابة ليخبئ لهما القدر مفاجأة مؤلمة إذ يجدا أن الشجرة مقطوعة إيماءة إلى النهاية المؤلمة التي تنتظرهما بأغنية “صُعبت عليك” التي غنتها عند شجرة الزيزفون:
صعبت عليك في ظلها شفت الهنا
وتحمل الكثير من التجديد بإيقاعات الجمل اللحنية القصيرة “أنت السبب” هنا يعود الباحث إلى الجملة التي حددت نهاية البطلة حينما تقول له بعد أن سامحها ” أنت حياتي وما ليش حياة من بعدك” فتعود إلى ذاكرته خيانتها له وتخليها عنه فيرفضها ويبعدها عن حياته فتقرر الانتحار بعد أن تترك له طفلتها مع رسالة، يهرع إليها ليجدها جثة تطفو على مياه الشلال القريب من قصر الأحلام ، وينتهي الفيلم بمشهد غناء عبد الوهاب أغنية أيها الراقدون على قبرها:
“أيها الراقدون تحت التراب/جئت أبكي على هوى الأحباب”.
تطويعه الآلات الغربية
وعلى هامش المحاضرة أكد الباحث بأنه لم يغال في التفاصيل الفنية لأن المحاضرة موجهة لجميع الشرائح وأكد أن عبد الوهاب تمكّن من استخدام الآلات الغربية وطوّعها لعزف موسيقانا الشرقية لاسيما آلة البيانو التي عرف خصائصها، وأشاد بجماليات صوته الذي كان علامة فارقة في تاريخنا الغنائي، وفي الوقت ذاته لمعت نجاة علي في عصر صراع غنائي بوجود نادرة وفتحية أحمد ومنيرة المهدية، ولكن برأيه الصوت لايكفي لابد أن يتزامن مع الحضور والذكاء وسرعة البديهة وهذا ما توافر عند السيدة أم كلثوم.
ملده شويكاني