ثقافة

لوثة الحكمة تصيب النص السردي في “عند باب الدير” للكاتبة سعاد مهنا مكارم

في روايتها (عند باب الدير) تحكي الكاتبة والمترجمة – سعاد مهنا مكارم- قصة رجل ثلاثيني يقدم على قتل زوجته بعد قصة حب طويلة تاركاً طفلتين تتقاذفهما أكف الزمان، إذ يبدو أن الكاتبة ومنذ البداية تصر على استخدام المونولوج والولوج في العالم الجواني للشخصيات متأثرة بالأدب المترجم لعملها فيه وفي البحوث والدراسات التي تختص بعالم الطفولة، حيث تبدأ مراوغة مع سليمى الضحية التي قتلها الزوج في حين  تبدو محرضاً أساسياً لجريمة الذبح، لكنها تتحول جثة هامدة ليظل الزوج مظلوماً ظالماً يجتر بؤس أحزانه وماضيه، فيما تتالى الأحداث في مدينة اسمها (الأرواح) وهي التسمية المتعمدة والمباشرة لخدمة أحداث الرواية إذ أن الأحداث تترجم ذاتها عبر أحاديث غامضة يعزوها القارئ أنها للأرواح التي تخاطبها الكاتبة بلسان الزوج.
كما يبرز أسلوب الكاتبة في تطويع الخطف خلفاً لاسترداد الأحداث وضبط تواترها مع الحاضر فغالباً ما يجلس الزوج على باب الدير مستذكراً حياته مع زوجته ولحظات اللقاء الأولى، وتستمر أحاديثه مع نفسه، فيما يبدأ فعلياً في البحث عن عائلة تنسى جريمته وتربي ابنتيه كي لاتفقدا أمهما كما فقد أمه باكراً في صغره، وتعتمد في ذلك أسلوب السرد الحكيم أي أنها توجه بعض النصائح وتسير الشخصيات فيما يرضخ للمصلحة العامة فالرواية تخضع لحكمة كالأم التي تنثر نصائحها وحبها دون أن توجه أبناءها بالعصا وتشير إليهم بالأصابع وهذا ما جعل نص الرواية سهلاً وسلساً يقبل القارئ عليه فلا يتركه قبل منتصفها بالرغم من اختيار الكاتبة لبعض الألفاظ الغربية والتي قل استخدامها وربما ندر(مقفوص، الخطيم)، ربما في محاولة منها لإعادة إحيائها قبل أن تندثر.
كما يبدو أن الكاتبة في هذه الرواية على وجه الخصوص تعنى بالشخصيات وحوارات المنولوج على حساب زمكانية الرواية وحتى تفاصيل شخصياتها إذ تقتصر في الغالب على جمل التوصيف الطويلة ذات السردية غير المنمقة بغية إرسال رسائلها وكأنها تمسك بيد القارئ لتدله على ماخطت بين السطور وعلى الهوامش وهذا الأمر غير المستحب في الروايات، وخاصة عندما تكون الرواية قصيرة وتمنح الكاتبة بحكائيتها فرصة العطاء والاختيارت الصائبة، لكن ذلك لم يمنع الكاتبة من التمكن من اختيار الأسلوب الجميل، الذي يلامس أفق الفؤاد ويجعلك تتعاطف مع الشخصيات خاصة شخصية عباس الزوج القاتل الذي يقابل الراهبة  بتول على باب الدير ويحكي حكايته لها، وهنا دخلنا أفق حكاية ضمن حكاية أكبر فاندمج المنولوج الشخصي بصوت الراوي وصوت الكاتبة معاً، وخرجت الشخصية عن إرادة الكاتبة وتمكنت من سرد قصتها بنفسها لا كما يبدو أن الكاتبة أرادت لها أو أن هذا ما أوهمت به الروائية بأسلوبها المتلقي، وبالرغم من استمرار تأثرها بأسلوبها الكتابي للأطفال، إلا أنه مازال النمط العام يتوجه للكبار بلغة الأطفال أو العزف على مشاعرهم رغم كبر الحدث وقضية الرواية.
أما من حيث تفاصيل الحكاية بحد ذاتها فهي مشغولة ببساطة دون مراوغة للقارئ بحيث يسهل استيعابها لتأتي النصائح غير مباشرة على لسان بتول الراهبة حين تحكي حكاية يوسف الصديق والكثير من الحكايات الأخرى ذات الحكمة ماجعل الحِكم تطغى على الرواية وتثقلها (الخير لا يولد إلا الخير) (السجن أرحم من التشرد)، ثم تمر أقصوصات وحكايات سريعة أخرى على لسان عباس وبتول كل منهما يسرد للآخر بعض ذكرياته  بلغة الشخصية التي اعتمدت التوصيف والغزارة في التفاصيل: (جارتنا أم محمود يابتول أمسكت القلم، ارتعش في يدها.. أخذت تخط عبارات الغزل التي نسيت أن تقولها لزوجها في يوم ما.. فاتها قطار العمر.. وهاهي على حافة الرحيل، لم يبق إلا رجفة اليدين واصفرار وجه يحمل أثلاماً بطول حزنها وعرض مآسيها).
ثم تظهر المفارقة أخيرا مع خيوط نهاية الرواية فتبدو أكثر ملابسة إذ أن عباس يذهب ليسلم نفسه للسلطات فيفاجأ بأن زوجته قد بلّغت عن اختفائه وهي على قيد الحياة ولم تمسس بأذى بل كان عباس قد قتلها في حلمه بعد أن حمّلها وزر قصة سمعها عن إحداهن فسممت حياته خوفاً على مصير ابنتيه.
كما تظهر مقطعيات سريعة في ختام الرواية منفصلة عن بنية الرواية وأسلوبها عبارة عن حواريات مرقمة بعضها ذاتي وروحي (عندما كان القمل يسرح ويمرح في رؤوسنا كان يمص الدم الفاسد ويخلصنا منه.. أما اليوم فقد امتلأت رؤوسنا بالدم الذي أفسد أخلاقنا) وهي حكمة جديدة أضافتها الكاتبة لتبدو أنها جزء من (أفوريزم) مستقبلي.. فلما تعمدت الكاتبة أن تجعل روايتها القصيرة في 111 صفحة مصابة بلوثة الحكمة والتوجيه مأخوذة بغواية اللغة تارة وثقل المواضيع المغروسة في النص تارة أخرى لتطفو الرواية على السطح دون ترك البصمة المرجوة منها وفق تجربة الكاتبة الكبيرة في عالم الأدب والكتابة.
ديمه داوودي