في جدلية المواكبة والظروف الاستثنائية قانون العقود الموحد.. بيروقراطية تهدد إعادة الإعمار وثغرات تنتظر إعادة النظر!
معلوم أنه في ظروف استثنائية كالتي تمر ببلدنا تفقد القوانين الاعتيادية قيمتها فيصبح العمل بها معرقلًا للإنجاز ومؤخراً للتقدم، ويصبح الابتكار والإبداع ضرورة، فكيف إن كانت بعض القوانين مقيدة ومترهلة وقديمة لا تواكب أو تماشي سرعة النهوض الاقتصادي التي نتطلع ونرنو إليها في قادم الأيام، وربما يكون قانون العقود المعمول به منذ سنوات طويلة في سورية أحد تلك الأوعية التشريعية التي تحتاج بشكلها الحالي لإعادة النظر مع كل خطوة نخطوها باتجاه مرحلة إعادة الإعمار، آخذين بعين الاعتبار ما ستتضمنه تلك المرحلة من تدفق لرأس المال من جهات عديدة ومتنوعة، فهل القانون الحالي ملائم لتنظيم الاستثمارات المنتظرة واستقطابها وتوظيف الرساميل الأجنبية وتوطينها، أليست في هذا القانون ثغرات كثيرة جعلتنا ندور في مكاننا وقتاً طويلاً، وماذا عن آلية عمله التي تقتلها البيروقراطية والروتين في تنظيم المناقصات والصيغ التعاقدية المختلفة؟!.
نظرة أولية
منذ ما يقارب العشر سنوات، في العام 2004 أُقِرّ قانون العقود الموحد رقم /51/ أمام مجلس الشعب وأصبح مشروع القانون نافذاً، وكانت هناك لجنة متخصصة درست مواد القانون وأبدت مجموعة تعديلات وملاحظات عليه لم يتم أخذها بعين الاعتبار في ذلك الوقت، لاحقاً ظهرت صيغ تعاقدية جديدة مع جهات استثمارية مختلفة وفق أشكال أخرى كنظام الـPOT الذي بدا إلى حد بعيد رؤية تعاقدية فضفاضة، فضوابطه بدت محدودة وبعض مشاريعه لم ترقَ لمستوى المشاريع الكبرى التي يعجز القطاع العام عن تنفيذها بشكل منفرد، فبدا أشبه بوحش مفترس لعدم توطينه بالشكل الصحيح، وبدا أن معظم المشاريع التي تمّ تنفيذها وفق هذا النظام قد فتحت باباً آخر من أبواب الفساد.. ورغم أن الحديث كثر مؤخراً عن أشكال تعاقدية أخرى مبنية على قانون التشاركية، الذي يتضمن صيغاً تعاقدية جديدة بين الجهات العامة والجهات الاستثمارية والفعاليات الاقتصادية الأخرى، رغم كل ذلك يبقى قانون العقود من أهم المحاور التي تحتاج للنقاش والمعالجة نظراً لارتباط هذا القانون بمختلف الصيغ التعاقدية المعمول بها في المؤسسات والإدارات العامة لتوريد المستلزمات أو تجهيز المشاريع بالمواد اللازمة لتنفيذها خاصة في مرحلة حساسة مقبلة، فما هي وجهة نظر الاقتصاديين والقانونيين وأصحاب القرار في هذا القانون؟.
مسطرة واحدة
يصف الباحث والخبير الاقتصادي د. عابد فضلية قانون العقود الحالي بأنه أشبه ما يكون بالمسطرة الواحدة التي تقيس جميع العقود بنفس المنظار، إضافة لما يعانيه من روتين وبيروقراطية، إذ يقول: رغم وجود نسخة معدلة في العام 2004 لقانون العقود في المؤسسات العامة لكن ما زالت فيها فقرات روتينية شكلية تعرقل إلى حد بعيد مستلزمات العمل والتشغيل في المنشآت العامة وتجهيزها بالمستلزمات، فهناك نوع من البيروقراطية في خطوات التعاقد عن طريق نظام العقود الحالي، وتبدو تلك الفقرات متشددة وروتينية أكثر مما هي فعالة، لأنها تركز على الالتزام بإجراءات التعاقد بحيث لا يترك فيها ثغرات أو محاباة للموردين، وإجراءات التعاقد في هذا النمط من العقود متشابهة (مسطرة واحدة) يتم التعامل من خلالها مع كل المستوردات بنفس النمطية سواء توريد آلات أو حواسب أو أشياء أخرى، فتوريد الكراسي أو المنصة لقاعة على سبيل المثال يتم التعامل معه تعاقدياً مثله مثل توريد آلات أو كمبيوترات، وفي قانون العقود توجد مشكلة في طريقة تقديم العروض دائماً فهناك شكل واحد للمناقصة “ثلاثة مغلفات وتأمينات أولية وتأمينات نهائية”، بغض النظر عن المؤسسة أو نوع مستلزمات المؤسسة المتعاقد عليها أو المرحلة، لذا فالمساواة بين العقود المتعلقة بمختلف أنواع التوريدات خلل كبير في هذا القانون.
بيروقراطية قاتلة
ويبدو أن قانون العقود بغض النظر عن أي تحسينات متوقعة لن يكون ملائماً لمرحلة إعادة الإعمار، فمن وجهة نظر الخبير الاقتصادي يتبين أن آلية العمل ستكون بطيئة جداً فيما لو استمر العمل بموجبه.. يقول د. فضلية: في كل الأحوال وحتى لو كان هذا القانون بأفضل أحواله ودون ثغرات فهو ليس صالحاً لمرحلة إعادة الإعمار، فآلية عمله ستكون بطيئة جداً مع ما هو مطلوب، وأضاف: قوانين التعاقد الأخرى مثل قانون التشاركية وأنظمة الـ POT هي تدعيم للعملية التعاقدية بين العام والخاص، ومع أن التشاركية من نوع الـ POT مختلفة من حيث طبيعتها لكن حتى عقود الـ POT التي تم رصدها هي عقود تقليدية، وهي من البدائية بحيث لا تحدد علاقة متوازنة بين العام والخاص، وإعادة الإعمار تتطلب مرونة وسرعة وديناميكية في عملية استقدام المستلزمات، إضافة للثقة بين الموردين والحكومة، مؤكداً: “عملية إعادة الإعمار يمكن أن تقتلها البيروقراطية”.
صيغ Pot جديدة
ويبدو الحل الأمثل من وجهة نظر د.فضلية تطوير نماذج جديدة من عقود الـPOT قابلة للتطبيق لا تتضمن “مطبات” للعام أو للخاص، وتكون الحقوق واضحة فيها فنياً وقانونياً ومالياً من الطرفين وبشكل متوازن، ومعالجة جميع الحالات التي يمكن أن تطرأ بما يكفل توزيع الأرباح وإعطاء القطاع الخاص حقه تماماً والعام حقه تماماً، لأن أي غبن قد يدفع بأحد الطرفين إلى التراجع، وأهم ما يمكن أن يقال عن مرحلة إعادة الإعمار إن كل عقد يجب أن يكون منسجماً مع نوع المشروع، فمثلاً العقود المعدّة لمرحلة 10 سنوات تختلف عن العقود التي يتم إبرامها لـ 50 سنة، يجب أن تكون هذه النماذج متناسبة مع طبيعة المرحلة مع حس بالمسؤولية، فالتعاقد يجب ألا يكون مجرد عملية تجارية بل يجب أن يكون علاقة وشراكة حقيقية بين العام والخاص والأهلي، وأي عقد غير متوازن بين هذه الأطراف فاحتمالات فشله ستكون كبيرة جداً.
كفاءات إدارية غائبة
يُقدم د.محمد خير العكام أستاذ القانون العام في كلية الحقوق وجهة نظر قانونية حول قانون العقود، ويرى أن القانون الحالي لم يميّز بشكل دقيق في عملية اختيار المتعاقد بين المناقصة وعملية استدراج العروض، فالتمييز بينهما كان غير واضح، إضافة أنه ورغم وجود أحكام تنظّم عملية التعاقد مع الجهات العامة لكن نصّ قانون العقود على ضرورة وجود لجان مركزية للشراء العام، وخاصة بالنسبة للاحتياجات الأساسية كالورق والحبر والأقلام والكراسي والكمبيوترات الخ، فالشراء بشكل مركزي يوفر الكثير من المال على الدولة، وهذا ما لم يلحظه قانون العقود السوري على الرغم من كثرة الهيئات والمؤسسات والإدارات العامة في سورية، أي لكل منها إدراة وموازنة مستقلة وهذا ما يستدعي أن يكون لديها موظفون أكفّاء للقيام بعملية التعاقد والاستلام والتسليم، وهذا الأمر غير متوفر في الكثير من مؤسساتنا وهيئاتنا العامة.. ومن ناحية أخرى فالمعروف أن للعقود الإدارية أنواعاً عدة، وأن لكل منها أحكاماً خاصة بها، وقانون العقود جاء ناقصاً، فلم يضع أحكاماً إلا لنوعين من العقود هي: عقود التوريد، وعقود الآجار.
التجديد والمرونة ضرورة
الدكتور عكام أكمل: قانون العقود السابق كان يميز في أحكامه بين عقود الجهات العامة ذات الطابع الإداري، وعقود الجهات العامة ذات الطابع الاقتصادي، فأتى القانون رقم 51 ووحّد بين أحكامهما، والحقيقة أن الحاجة ملحّة إلى إيجاد أكثر من قانون للتميّز بين طبيعة هذه الجهات وليس توحيدها، فنحن مثلاً بحاجة إلى تفصيل أكثر في وضع أحكام لكافة أنواع العقود في هذا القانون، وبحاجة للأخذ في عين الاعتبار طبيعة الجهات التي تتعاقد، كما أننا بحاجة إلى مزيد من المرونة لتأمين الاحتياجات بالسرعة اللازمة خاصة في الظروف التي تمر بها سورية ومرحلة إعادة الإعمار خاصة بالنسبة للعقود الخارجية، ورأى العكام أنه من المهم جداً إبعاد الشركات ليس فقط المتعاملة مع الكيان الإسرائيلي وحسب بل الشركات المسجلة في دول كان لها دور في تخريب الدولة السورية، كما أنه لا بد من التمييز بين الشركات حتى ولو كانت تحمل العلامة التجارية ذاتها بين بلد وآخر، فمن المعلوم مثلا أن آلة طباعة من ماركة معينة يابانية الصنع تختلف تماماً في كفاءتها عن آلة تحمل نفس العلامة التجارية مصنّعة في فروع للشركة في الصين على سبيل المثال أو تايوان، لقد أُغرقت سورية بالكثير من الآليات المتدنية الكفاءة لهذا السبب وللأخذ بشكل دائم بالتحصيل بالسعر الأقل.
مسودة قانون جديد
من جهته تحدث المحامي والباحث القانوني ماهر العطار عن مشروع قانون العقود الجديد الذي ساهمت بإعداده خلال الفترة الماضية 18 جهة حكومية وخاصة، إضافة إلى اتحاد المقاولين، ليكون مكملاً للقوانين الخاصة بالاستثمار والتشاركية في مرحلة إعادة الإعمار وهو بانتظار المصادقة في مجلس الشعب، موضحاً: لقد جاء مشروع تعديل قانون العقود رقم 51 لعام 2004 كي تكون هناك مشاركة وحماية للمال العام، وأيضاً حماية لحقوق المقاولين في المناقصات والعقود المبرمة مع القطاع العام من أجل الدخول والتحضير للمرحلة المقبلة، ولتكون هناك صيغ توافقية تلبي حاجة كافة الأطراف من قطاع عام وخاص خاصة الشركات المعنية بملف إعادة الإعمار علما أن أكثر من ثلثي الموازنة العامة سيتم إنفاقها من خلال مشروع قانون العقود الذي سيصدر قريباً بعد عرضه على مجلس الشعب وهو الذي سينظم كافة حالات تنفيذ العقود التي تخص كافة القطاعات الحكومية، وهو حاجة ملحة فرضتها العقبات وغلاء مواد البناء والمحروقات التي واجهت المقاولين الذين كانوا ينفذون عقود تنفيذ وبنية تحتية مع الجهات الحكومية..
وأكمل: مشروع القانون الجديد سوف يحقق إنصافاً بين كافة الأطراف والشركاء الذين قد يأتون من دول البركس والدول الصديقة ويساعدون في الأعمال الإنشائية والتوريد لكل ما يتعلق من عقود لصالح الجهات الحكومية والوزارات والمؤسسات، وهو حاجة دستورية ماسة لتتناسب مع ما جاء في مواد الدستور السوري الجديد الذي يمنح الحكومة السورية تعديل كافة القوانين التي تحتاج لحماية دستورية لحماية كافة الأطراف من مستثمرين ورجال أعمال، وهذا سيكون داعماً لقوة الاقتصاد السوري وجاذباً للمال الوطني وأموال المغتربين السوريين في المغترب الذين سيساهمون بإعادة إعمار سورية.
التطوير التشريعي أولوية
رؤية أكثر اتساعاً قدمها الدكتور محمد ظافر محبك وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الأسبق، إذ رأى أن أي نشاط اقتصادي يجب أن يواكبه تطور في البيئة التشريعية، فعندما ترغب الحكومة بتحفيز المجتمع باستثمار طاقاته إلى حدودها القصوى وتقفز قفزات كبيرة يجب أن يكون التطور التشريعي مواكباً لها، وقال: مع الأسف، فالقوانين الحالية القائمة لم تعد هي الإطار التشريعي الملائم، وبعد معاناة طويلة مع الأزمة علينا أن نضع قوانين وأنظمة جديدة تكفل وتضمن انطلاق كافة القدرات والقوى الإنتاجية في المجتمع لكي نعوض ما خسرناه خلال فترة الازمة التي تجاوزت الثلاث سنوات والنصف.. وأكمل: إذا أردنا أن نسقط هذه الرؤية والتصورات على ما يجب أن تكون عليه البيئة التشريعية في المرحلة المقبلة فعلينا أن نهتم بقواعد أساسية أهمها عدم التعميم، فما قد يصلح من العقود في مؤسسة قد لا يصلح في قطاع آخر، وهذا يعني أن تكون القوانين نسبية تلائم كل نوع من أنواع النشاط على حده وهو ما بدا أنه غائب في قانون العقود الذي تتم مناقشته.
استغلال الطاقات كافة
ومن وجهة نظر وزير الاقتصاد الأسبق يجب أن نضع لأنفسنا هدفاً وحيداً وهو استغلال كافة الطاقات المحلية والعربية والإسلامية والأجنبية التي نستطيع تسخيرها لخدمة أهدافنا النهائية، وفي مقابل هذا الأمر يقتضي ألا نميز بين مشروع متوسط أو صغير أو كبير إلا بما يلائم كل مستوى من امتيازات تحفزه على العمل والإنتاج..
ويكمل: تنبغي معاملة كل المشروعات على حد سواء الصغيرة أو المتوسطة أو المشاريع الكبرى، والأخيرة -من وجهة نظري- هي الأكثر أهمية، ونحن بأمسّ الحاجة لدعم المشاريع الاستثمارية الكبرى، وبالتالي استثمار كل القوانين المتاحة والمرونة شرط أن تكون الأنظمة قانونية، وتخدم الهدف الرئيسي.. ويرى الدكتور محبك أن الشركات الكبرى أقدر على التنظيم وتقديم احتياجات التقدم، فعلى سبيل المثال لماذا لا يكون تنظيم عمل قطاع النقل عبر شركة مساهمة كبرى تكون الدولة جزءاً منها، ألن يسهم ذلك في حل مشكلة النقل التي نعاني منها حالياً، وتنظيم عمل هذا القطاع في سورية؟.
محاكم خاصة
النقطة الأكثر أهمية التي أوضحها د.محبك في ختام حديثه هي ضرورة وجود محاكم اقتصادية متخصصة في الأمور التجارية، إذ قال: نحن في الحقيقة نحتاج إلى محاكم اقتصادية وتجارية خاصة في مجالات الأمور المالية تسرّع البت في القضايا، فتطوير هذا النوع من المحاكم مهم جداً، مع ضرورة وجود مرجع لتفسير القوانين الاقتصادية، فالإصلاح التشريعي يجب أن يترافق مع إصلاح قضائي..
وختم حديثه مضيفاً: إن أي قانون مقبل يجب ألا يصدر بشكله النهائي حتى تقدّر الآثار الإيجابية والسلبية والاقتصادية لهذا القانون، والهدف النهائي هو تعظيم الإيجابيات وتخفيض السلبيات إلى حدودها الدنيا، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن معيار تطور قوانين الاستثمار هنا هو المطبق في الدول المجاورة بحيث تكون هذه القوانين محفزة للإنتاج المحلي، وجاذبة للرساميل الأخرى، خاصة في المرحلة المقبلة.
خلاصة القول
خلاصة القول، وبناء على كل ما تقدم، تبدو الحاجة ملحة لإعادة النظر في قانون العقود، وتطوير قوانين وتشريعات جديدة تنظم العملية الاقتصادية، وتبني روابط الثقة وتعززها بين مختلف الجهات والفعاليات الاقتصادية المشاركة، فمع كل إنجاز ميداني يحققهُ الجيش العربي السوري على الأرض، ومع كل بقعة سوريةٍ يُعاد نبضُ الحياة إليها على وقع الملاحم والبطولات التي يسطرها الجندي العربي السوري، يكبرُ الأمل ويزداد، ببدء مرحلة جديدة ينتظرها جميع السوريين، وينتظرون معها عودة الحياة الاقتصادية، وإعادة إعمار ما تهدّم على أيدي صنّاع الحروب وناشري ثقافة الذبح والموت.
محمد محمود