نوبل: اكتمال الأسئلة.. اكتمال الوهم!
أحمد علي هلال
نوبل مرة أخرى تعيد الأسئلة ذاتها لجهة ماهية المبدع ومنجزه وهويته ولعل هذه الأسئلة بالذات من تظل تدور في فلك القلق والانتظار وقراءة النتائج وإسقاط الرغبات، لما لا يفوز بها الشاعر السوري الكبير أدونيس، ولماذا لم تُمنح للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ولماذا مُنحت في أقل من خمس سنوات لروائي فرنسي آخر هذه المرة كان اسمه «باتريك موديانو»؟.
لا تخرج جائزة نوبل بسحرها العالمي عن ثوابتها في الاختيار وفيمن يقع عليهم الاختيار في الفوز بالجائزة، لطالما أثير غبار كثير، وجرت من تحت النهر مياه كثيرة، فهي أي الجائزة مازالت في دائرة الارتياب ومن الواضح حتى الآن أن من يفوز بها سيُعيدنا من جديد إلى اكتشافه داخل ثقافته بالذات، ليصبح السؤال ماذا لو قرأنا -موديانو- رغم تباين الترجمات العربية القليلة له، والخلل الفادح في ترجمة عناوين رواياته، حتى ندرك على الأقل لما وقع الاختيار عليه ليفوز بالجائزة العتيدة، ولم يفز غيره ممن تواضعنا على القول فيهم أنهم أكبر من الجائزة فهم الجائزة بذاتها، للثقافة العربية أولاً وللفكر والإبداع تالياً وللذاكرة الانسانية عموماً.
ومن المفارقات الكثيرة أننا سنجد كتابات الاحتفاء بموديانو تغزو الصحافة الثقافية فالكل مشغول على ما يبدو باكتشاف ذلك الرجل «مسّاح باريس» وغيرها من النعوت التي تستحضرها ذاكرة عاجلة، وحسبها أنها تقرأ في لحظة اللا قراءة وتغول الميديا، لتأتي القراءة أشبه بالاستهلاك السريع دون المرور بالقيمة داخل ثقافة مختلفة وما يعادلها في ثقافتنا رغم كل تشظياتها وتغير أدوارها، وسواء أعلنت الأكاديمية السويدية أن موديانو «هو كاتب الهوية والفقدان والأمل»، أو بوصفه «المؤرخ والمحقق والمنقب» فإنها ماضية بلا شك في مفاجئاتها المعلنة لترمي كل الأسئلة المحايثة جانباً، كما السجالات العاصفة التي تثيرها الجائزة في كل زمن جديد.
في حوار معه يقول موديانو: «عندما نكتب فإننا نضطر أن نقوم بدور المشاهد والمستمع، وأنا لا أقول المتلصص ولكن يمكن أن نلمس الواقع كي يمكننا أن نراقب وأن نعيش في الأجواء، وذلك بدلاً من أن نرتبك عندما نضطر أن نقوم بأدوارنا».
واللافت أنّ في حيثيات منح الجائزة ما أُشيع من تسريبات صحفية أكدت على أنّ موديانو يذهب إلى المصائر البشرية العصية على الفهم وكشف العوالم الخفية للاحتلال، والمقصود هنا النازية وما فعلته عشية حروبها العالمية.
ومن هنا فإن الموضوعات التي يتعلق بها أدب كاتب ما سوف تشكل على الأقل مجالاً للاهتمام والانتباه داخل سؤال الانسانية الكبير، على الرغم من أننا داخل ثقافتنا العربية لا نعدم من تكلموا عن الاحتلال والإرهاب وويلاتهما الفظيعة، ليس اسقاط لحدث سياسي بعينه، بل تعرية لما يؤرق البشرية جمعاء وما يهدد وجودها على الدوام، فإذا كان سؤال المعايير كما الثيمات هو السؤال المستحق لدى لجنة الجائزة، إذا افترضنا حُسن النية وهذا في ضوء الاحتمال فعلى الجانب الآخر يلتقي في الإبداع من تشاطروا هموم البشرية حدّ تطابق الرؤى والمفاهيم وحدّ الاقرار بأن ما يهدد الإنسان، وهو القلق بامتياز أصبح محل اجماع لا سيما على مستوى الإبداع العالمي وعالمية الإبداع، فإن اختزال الجائزة على ذلك النحو لا يذهب إلى الاقصاء فقط، بل إلى تجاوز من هم في الواقع ذاته وليس في متخيل الأدب والرواية بشكل خاص، هذا يعني «أن التسييس» الذي لا تنجو منه جائزة عالمية بحجم نوبل وسواها هو القدر الآخر الخفي الذي ينظم منح الجوائز، لا سيما أنه يأتي غير معلن ومن باب المسكوت عنه، والذي دائماً يحتاج إلى اثبات كي يقتنع العالم بها.
أصبح السؤال إذن لماذا لم يُمنح أدونيس الجائزة نافلاً، وهو سؤال الخفة التي لا تُحتمل، ليس لأن أدونيساً قد أصبح دالاً إبداعياً عالمياً فحسب، بل لأن الجائزة لا تضيف إليه كما لم تضف إلى درويش وسارتر على وجه الخصوص، فهم من أضافوا إلى الثقافة بعدها العالمي العابر للغات والحدود ولأقصى المتخيل الإبداعي، لا نسقط رغبات هنا وبذات الوقت لا نقر بواقع مهما جهر بمتعالياته، بقدر ما ننحي من ذاكرتنا تلك الأسئلة المستحيلة، والتي ينبغي معها سؤال ثقافتنا بمكوناتها ورموزها، سؤال التحقق والانجاز ليس سؤال الاستعراض والاستلقاء على شواطئ العولمة والنجومية المثخنة، فكم هي الذاكرة مثخنة هي الأخرى وهي تختبر في كل شوط «نوبلي» الذات الابداعية العربية ومفارقات قراءتها خارج أنساقها بالذات وخارج مكوناتها المعرفية، حسناً فلنقرأ موديانو وغيره لنقارب تلك الأسئلة ولنخرج بقناعاتنا نحن خارج معايير الجوائز والتي هي غالباً ما تكون مفارقة لما نعرف انطلاقاً من تأملنا الخاص بما تعنيه هوية المعرفة في ظل عالم أكثر تغيراً وأكثر جدلاً.