أكـلـــة الأصنــام
محي الدين محمد
هل نحن حقاً نعيش عصر الصراخ المتنوع في ظل مدنية معاصرة؟! هذه المدنية التي ساهمت في خلق مخاضات جديدة على كل الأصعدة ولم تترك لنا شيئاً دون أن تستعبد فيه عقولنا وتفكيرنا، وهانحن مرة أخرى نحاول أن نهزم الحر، والبرد، ونقاوم المرض والموت ونبحث متعبين عما يقال له الوهم وهم السعادة التي وجد فيها أعراب العصر الحديث معركة الدين السياسي وسيلة لخدمة عروشهم بعدما حلت بها العلل وعصف بها الهرم.
وفي كل التفاتة عبر معراج نفسي بلا موعد في مزالق الطريق دون أن ندري، ومع ذلك لا يعتبر الطالعون من دهاليز أطلالهم أن أقدامهم ستسقط في الحفرة وهم يبصقون في وجه حراس سجونهم.
وقد تصاعدت في رجفات أصواتهم مزامير الفكر الأسود الذي يسعون من خلاله لتكريس الأموال، والتماس السلطة، ومحاولة امتلاك القوة بأصابع غليظة لاترحم أحداً من التابعين. لقد صاروا أيضاً يتامى القلوب، وهم يسبحون في أوجاعهم القادمة.
مما لا نشك فيه أن الصنم السياسي الذي أعاد صنعه الملوك والسلاطين في هذا الزمن العربي الأصلع بقصد إنتاج جيل يظل راكعاً في أوهامه، وقد توقفت حركة الأشياء النابضة بالحياة من الداخل، فأيقظوا فيه أفكاراً يسكنها الخراب فهو أي الجيل ابن القبيلة وحفيد العشيرة، والمدافع عن القدرية التي جاءت بهذا السلطان، وذلك الملك ليكون حامياً للدين، وأميناً على وحدة المجتمعات المغطاة بظله، وقد استغفر معها صنمه الذي يصرخ كل ساعة صرختين، ويضحك ضحكتين، ويكذب كذبتين وهو يذرو الأشياء بمذراته ويخطف من خلالها نزوة الأسر الفقيرة والمضطهدة في الأماكن التي يدير شؤونها ويتحمل مسؤولية المطر والعشب في حقولها والرطوبة والدفء في مساكنها.
إنه النفط الأسود والذي يقول عنه الفقراء – شلال الذنوب- وأما مالكوه فهم الذين يركبون القطارات العرجاء في المدن الغربية وفي استراحة الليل يتجمعون حول أطياف اللحوم الحافلة بالمذاقات والغارقة بالعطور الفرنسية، وقد ادعت تلك الجارية الأمريكية بعد لقائها جلالة الملك أنها كانت قد اغتسلت، وحان أن تقرأ عليه بعض ما كتبته في أناقته، وقد أعدت له أدوية الزكام، والحبوب المنشطة للجنس، وبعض كروت المعايدة التي سيقدم عبرها التهاني لأنصاره ممن حفظوا الشعارات الكاذبة التي رباهم عليها في وقت مبكر ليصلوا فيما بعد إلى هذه الجرائم.
وذلك قبل ميعاد نضوج أجسامهم لأن في امتلاكهم السلاح وقتل الآخرين سيوصلهم إلى ديار الله التي وعد بها المؤمنين وعليهم أن يتحملوا أوزارهم إذا لم يستجيبوا للترانيم التي لقنهم بها أنصار الملك ممن ابتكروا باجتهادهم هذه الفتاوى المضللة وقد فاضت عبرها ملامح اللذة الشهية وانكسرت حمرة الخجل في وجه الأنثى التي تنتظر المقاتلين في الجنة وسيكون قلبها متوجس خشية الوصية التي وصلتها من جلالة الملك، مؤكداً فيها على عقم صنمه وأنه كان ولايزال صديق السماء الثامنة فهو الذي مارس شهقته الكبرى في كدها لترحل إلى أماكن العبادة وقد نزلت كل النيازك تبارك له صلاته وتدعو أنصاره للاستجابة لمطالب أوثانه التي علقها على الأرض التائهة ليستقيم ظلها وتغازل شمس الجيل الذي علّمه كيف يحافظ على لغته في محاصرة الأضداد والعقد اليابسة وقتل الذين رهنوا حياتهم خدمة للشريعة السمحاء في حقيقتها الثابتة.
يبدو أن أعراب القرن الحادي والعشرين قد حشدوا الشباب الصغار ليراقصوا البنادق تحت حجج وهمية كسعادتهم في تعاستهم ومنها الدفاع عن الدين الحنيف، ولكن في بلاغة من نوع آخر هي الموت (بلا لون! وبلا طعم!ورائحة!) إنه القتل المجاني.
ولكن هذا لايعني لجلالة الملك سوى اللذة وكأنه يعاقر امرأة فرنسية وقد استحضر لها الخمر الحجازي المعتق الذي أنجبته الكروم الصحراوية التي حمتها أصنام اللات والعزى، وهبل، وبعل.
وها هي اليوم تولد من جديد على يد الملوك والسلاطين وما أبعد هؤلاء عن سلوك الأنبياء الذين ارتبطوا بقيم السماء وطبقوها على الأرض، ولكن لاتتجذر أو تستوي لتصل إلى هذا المستوى الذي يؤدي أهله واجبهم خدمة للسياسة، والتأطير والأرشفة الباطلة والتي لم تعد تصلح لإدارة شؤون الناس والقذف بهم في المهالك.
ولاننسى أن السيد المسيح لم يكن يملك سوى ثوبه الأخضر، وأن بوذا قمع شهوته ليرى السعادة في مناخها العفوي دفاعاً عن الشواطئ والسواحل ولكن ليس حباً بالأصنام التي ولدت من صنع نحات وهّابي وسوف تكون نهاية أنصارها في بئر من نفط جهنم ولم تعد تخدمهم في مفازاتهم العارية كل القرابين وكل النذور ولاكل الأصنام التي جاعوا فأكلوها وقد أغلقت خلفهم الأبواب.