ثقافة

حين يكتوي المبدع بنار الألم

إسماعيل عدرة: لتكتبوا الشعر إعصاراً وقافيةأن تفقد شيئاً، أياً كان فقده، هو ألم، ولكن إذا كان فلذة من كبدك، قطعة من روحك، واحدة من عينيك، فالألم حينئذ يتجاوز مفهومه النفسي، ويغدو تمزيقاً للروح، وحرقاً للقلب، صحراء مقفرة، يضلّ فيها القلب الطعين حتى يسكت عن الوجيب، والشاعر الراحل إسماعيل عدرة اكتوى بنار هذا الألم، واحترق في مجمرته، ولم يكن لديه سوى الشعر سبيلاً ليعبّر عن ذاك الألم المبرح الذي ظل يرافقه منذ أن فجع بموت ابنه البكر نزار الذي أسهم في رفد الشعر العربي الحديث بديوان حافل بأنفاسه، ونفحاته الوجدانية الشابة، من هنا شكّل رحيل الابن بالنسبة لشاعرنا نقطة تحول في مسيرته الإبداعية، والحياتية، كما أكد ابنه الآخر، الإعلامي هشام عدرة في الندوة التي أقيمت مؤخراً في مركز ثقافي «أبو رمانة» ضمن سلسلة “أعلام خالدون”، مشيراً في بداية كلامه إلى الديوان الشعري الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، لشاعرنا الراحل، وموجّهاً الشكر الكبير للهيئة، وللدكتور الشاعر جهاد بكفلوني الذي أبى إلا أن يدقق الديوان بنفسه قبل النشر، موضحاً أن هذا الديوان كان من المفترض أن يُطبَع منذ سنوات، لكن ولأسباب كثيرة تعثّر هذا الأمر، بالإضافة إلى حرص هشام على طباعته ضمن مؤسسة ثقافية هامة مثل الهيئة لضمان توزيعه بالشكل الأمثل، وهذا ما حصل.
وبالعودة إلى الحديث عن الراحل إسماعيل، ينوه هشام إلى ما جاء في مقدمة الديوان على لسان الشاعر حول تجربة الألم الفظيعة التي عاشها بفقده لابنه حين كتب قائلاً:
“الألم أصدق المشاعر وأعمقها، أو ربما كان من أرقاها وأرفعها، القلب الذي لا يتألم لا يغتبط، ولا يكون إنسانياً، القلب الذي لا يتوجع لا يعرف معنى الحياة، ويجهل قيمة الإنسان عبر الحياة، ودروبها المتعرجة، الألم هو الحياة لأنه إحساس صادق بمعنى الحياة”، مبيناً فيما خطّه قلمه أن “هذه الألحان التي يبكيه بها، إن هي إلا علّة لنفسه الجريحة، وروحه الممزقة”.
ويُحسَب لإسماعيل عدرة أنه مبدع ساهم في حركة الأدب، والشعر العربي في الوطن العربي منذ خمسينيات القرن الماضي، ونشر قصائده الشعرية، والقصص القصيرة، والمقالات الأدبية، والنقدية واللغوية في مجلات وصحف عربية، منها: “الآداب”، و”الأديب” في لبنان، و”الموقف الأدبي”، و”المعرفة”، و”الثقافة” في سورية، وأشار ابنه هشام إلى أنه ولِد سنة 1926، وتوفي في 10 أيار سنة 1981، وكان عصامياً من الطراز الأول، حيث عمل موظفاً، وشرطياً في مدينة سلمية، ومن ثم عيّن معلّماً، إلى أن انتسب إلى جامعة دمشق، حيث درس الأدب العربي، ليتخرّج فيها سنة 1961.

مرب فاضل
ويشير هشام إلى أن الراحل أخلص لمهنة التدريس، وكان مربياً فاضلاً، فتتلمذ على يديه كثيرون، منهم الشعراء، والصحافيون، والأطباء، والمهندسون، وقد درّس اللغة العربية وآدابها في مدارس السلمية ومصياف منذ عام 1961 حتى تاريخ رحيله في 10 أيار 1981، حيث توفي بعد إعطاء الدرس لطلابه بساعة واحدة فقط، موضحاً أنه كان يتابع طلابه في منازلهم، ويدرّسهم مجاناً، وفي ليلة امتحان مادة اللغة العربية للبكالوريا، كان لا ينام، حيث يحاول قدر المستطاع التجوال على طلابه ليقدّم لهم النصح، والمعلومات الهامة، أما في فترة الأربعينيات فقد شارك يافعاً في المظاهرات ضد الانتداب الفرنسي، وفي الخمسينيات بدأ بنشر القصائد الشعرية، والمقالات في المجلات التي كانت تصدر آنذاك في سورية، ومصر، ومنها “الغدير”، و”الرائد العربي”، و”الطالب العربي”، و”الثقافة الوطنية” في القاهرة، وكان يتفاعل مع الأحداث الجارية، حيث كتب قصائد للثورة الجزائرية، كما أسعده، كونه كان قومياً عربياً، قيام الوحدة السورية المصرية، فكتب قصيدة حماسية ألقيت بمناسبة قيام الوحدة في حفل جماهيري أقيم في مدينة سلمية جاء فيها:
إن العروبة للحياة.. أوار/ إن العروبة للسماء مشاعل/ إن العروبة للمغير.. دمار/ وطني.. عبدتك بعد ربي مخلصاً/ هلا يلام الحر والأحرار.
ولانشغاله بالتدريس في الستينيات قلّ إنتاجه الشعري، وإن كتب فمن وحي التدريس، لذلك له قصائد ضمها ديوانه الشعري يصف فيها سير الامتحانات في المدارس التي كان يشرف عليها، وأسماها من أدب الدواوين الرسمية.

أخلص  للقصيدة العمودية
في فترة السبعينيات، وتحديداً في بداية عام 1974، كانت المرحلة المفصلية في رحلة حياة الراحل إسماعيل عدرة، برأي ابنه هشام، حيث توفي ولده البكر الشاعر نزار في حادث سيارة بعد أن شارك في حرب تشرين، وكان قادماً في إجازة قصيرة للأهل، فتحولت معظم قصائده إلى رثاء فلذة كبده نزار:
أبكيــك أم أبـــكي هـــوى وشـــبـابا      يا برعماً ندى الوجود، فطابا
قد كنت أرجو أن أكون لك الفدا      فذوى الرجاء بمقلتي وخابا
أنـــزار.. هــل عــدل يغيبك الردى       وأظل بعدك في الدنى أحقابا؟!.
وهي قصائد ليست من الرثاء التقليدي المعروف، وليست من الشعر الرومانسي الذي لا يستهدف مشكلة، إنها الألم، الألم الذي يطرح تجربة حياتية، غنية بالصدق.
وأكد هشام في حديثه أن الراحل إسماعيل كان يتوقع اللحاق بنزار سريعاً، حيث ذكر ذلك في قصائد عديدة، وهذا ما حصل بعد سبع سنوات، مشيراً إلى أن رحيل نزار شكّل صدمة كبيرة لإسماعيل، حتى إنه كان يحاول دائماً إبعاد أولاده الآخرين عن كتابة الشعر -وهو منهم- حيث فرض عليه دراسة البكالوريا العلمية، ومن ثم الهندسة، ، لذلك تفاجأ حين قرأ له مقالاً نشرته جريدة “البعث” عام 1980، وهو طالب جامعة سنة أولى ليعمل في الصحافة، ويكتب القصائد الشعرية فيما بعد، ولكن بإشرافه، منوهاً إلى أن الشاعر الراحل إسماعيل عدرة أخلص للقصيدة العمودية التي كان يقول إنه ينحتها كفنان يعمل على منحوتة، في حين أن قصيدة التفعيلة بالنسبة له مثل شرب كأس ماء، أما آخر قصيدة كان قد كتبها الراحل فهي وجِدَت بين أوراق الشاعر مع وصيته، يقول في بدايتها:
ولتكتبــوا الشــعر إعــصــاراً وقــافيـة             وليعصف النثر تياهاً به القلم
من يكتب الحــرف مخضــلاً بأدمعــه            زلت به الروح والميدان والقدم!
هذي “الأغاني” لا ترضى بها شيم             فللقوي سلاح فاتك، يقظ.
وختم هشام كلامه بأن الراحل فاز بجوائز عديدة داخل سورية وخارجها، وكتب العديد من النقاد عن أدبه وشعره،  كما ضم معجم البابطين الشعري ملفاً عنه، مشيراً إلى أنه جمع  مكتبة قيّمة منذ الأربعينيات وحتى وفاته، تضم أمهات الكتب الأدبية، والتاريخية، والدينية، واللغوية، يبلغ عددها حوالي 2000 كتاب مازالت كما هي، وستعمل عائلته على تخصيص جزء من منزل العائلة القديم ليكون متحفاً شخصياً للراحل يضم نماذج من قصائده.
أمينة عباس