ثقافة

تأملات في أوراق العمر الخريفية

مع التقدّم في العمر تنتاب الكثير من الناس تغيرات نفسية، تميل إلى الكآبة عند البعض، والشعور  أن -رحلة الحياة- قد أوشكت على النهاية، وأن شمسها قاربت من المغيب، خاصة إن كانت مصحوبة بأعراض جسدية، ولكن يبقى القلق هو المسيطر على هذه المرحلة العمرية بالذات، قلق الخوف من الموت.. كل هذه الأشياء تجعل الإنسان بعد الثمانين يعيش في حالة ضياع وخوف من الأيام القليلة المعدودة -التي يعتقدها باقية من عمره- على عكس ما جاء به عبد اللطيف أرناؤوط في كتابه الشهري الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، تحت عنوان “أوراق الخريف الشاحبة ماذا بعد الثمانين من العمر” وهي عبارة عن تأملات يتمنى أي إنسان أن يعيش ضمن هذه الأحلام.
في الواقع، يدور في ذهن أي شخص سؤال يتحمل الكثير من الأجوبة “ماذا بعد الثمانين من العمر؟” ما الذي يمكن القيام به؟ هل يستطيع المرء أن يكون كما في الأربعين أو الخمسين كامل العطاء، يبحث عن الفرح والطموح والمستقبل، أم أن المستقبل يكون قد انتهى وتوقف، ويبقى يعد الأيام المتبقية، وجزء من الجسد والأعضاء قد بدأ بالتخلي عنه بالتدريج، بالإضافة إلى شعوره بأن العالم حوله قد تخلوا عنه عبر نظرات مرموقة تقول إن القبر أولى به.
بعد الثمانين، بالتأكيد يتغير كل شيء حتى كلمة “العمر كله”، في يوم مولد الشخص، لم تعد تحمل نفس اللهفة، بالعكس تماماً أصبحت تحمل المزيد من الألم والوهن والتعب، حتى إن الدواء تتغير وظيفته لتصبح مهمته الجديدة إطالة سلامة الجسد.
بعد الثمانين، تحضر الذاكرة وتتربع لتصبح وكأنها الوحيدة الموجودة وتسرد حكايات مع الأصدقاء، فيتوقف أرناؤوط عند سنواته الأخيرة متسائلاً : هل ستقوده إلى تحقيق إنجازات مضافة إلى ما حققه في سنوات العمر الطويلة.

لن أقول وداعاً للقلم!
بعد الثمانين من العمر راح يمارس رقصة الطير الذبيح وقد أثقلته السنون، فبدا أشد ارتعاشاً، هذا الفارس الذي آن له أن يترجل.
في الثمانين، يصر عبد اللطيف أرناؤوط على تجاهل وطأة الزمن، وإن نال من عزمه وشكيمته، ولعله على قناعة أنّ الكاتب قادر على مواجهة هذا الخريف ما دام قادراً على الكتابة، التي بدأها منذ تخطيطه لحروف الأبجدية، فكان القلم هو الوحيد الذي يدعوه إلى بناء قصور من الخيال في رحلة مليئة بمتناقضات الحياة من القلق وخيبة الأمل والحلم والخوف، هذا القلم الذي ساعده في التحليق بخياله إلى أبعد التصورات حتى بات صديق دربه في عالم مليء بالورود وعذوبة الحدس. في الواقع، لم تكن رحلته مع القلم رحلة عابرة بل كانت صداقة عمر، ورغم ذلك يشعر أنه أضعف من حماية نفسه من عدوى الأمراض التي تتكاتف وأعداء القلم الحر في عالمنا المنهار، فقد استسلم وسلّم الراية لمن هو الأقوى على الساحة، وللأجيال القادمة دون التنكر لرحلة كانت مليئة بالخيال والأحلام، هاجراً قصوره المبنية من كلمات تضاهي ناطحات السحاب، “أسلّم الريشة لمن هو أكفأ مني وأقدر على امتلاك اليقين والصبر”.

ماذا نريد من الحب
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة من العمر، ماذا يريد ابن الثمانين من الحب الذي لا يموت مادام الإنسان حياً، فالحب هو قطب الرحى الذي يدير حركة الكون، بوجهيه  الجسدي والروحي، فما من علاقة حب تستمر فيها العذرية مدى الحياة إلا وتفضي إلى التواصل الجسدي، وما من علاقة إلا وتقترن بلون من التواصل والتجاذب الروحي، ولو كانت عابرة، وحين يعترض المرض والوهن والعجز طريق الإنسان يشعر وكأنه خارج الحياة فلا يبقى أمامه إلا أن يعقد صداقة مع الموت الذي تحداه من قبل. وماذا سيبقى بعدها؟ بعد الثمانين .. لا يبقى من الحب ومؤسسة الزواج إلا المودة والاحترام المتبادل والعطف، ولكن باعتقاد الكاتب أنه سيبقى له الكثير، وسيبقى عطاؤه زاداً لمن بعده، وسيتقبل مجاملة الآخرين. ويختم لا لن أقول وداعاً للحب ولو في الثمانين من العمر.

تجارب الحياة
ولايخفى على أحد فينا أن الإنسان هو من يبني نفسه بنفسه طبعاً دون نكران لدور القدر والحظ والمصادفة، ومن واجب الإنسان أن يكون ذا مبدأ قويم يتمسك به مهما اشتدت عليه النوائب، وبالتأكيد يصل الشخص إلى عمر الثمانين وهو مدرك تماماً طبيعة الأشخاص سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً، وهناك من علمته التجارب الحياتية أن يكون متفائلاً وصلباً أمام المحن، مؤمناً أن الحياة ليست حلوة دائماً ولا بد أن نتجرع المر وفيها قيمة السعادة، فالحياة تعطينا بقدر مانعطيها، كما أن المثابرة وقوة الإرادة واحترام الآخرين والإفادة من تجارب الكبار ضمان لتحقيق الهدف ولا يقاس النجاح بما حققه الإنسان من مال أو منصب.

الحفيد والزوجة
وحسب ما تقول الأبحاث فإن جلوس الجد مع أحفاده ابتداء من عمر السنتين، يقوي وينمي قدرات الطفل ومهاراته ويصقل حدة الذكاء وسرعة البديهة ويحقق ملكات الإنصات والاستماع والجرأة في التحدث، وهذا مافعله بالضبط عبد اللطيف أرناؤوط، حيث قدم له الكثير من النصائح لاختيار مستقبله، محاولاً أن يعطيه من تجاربه التي لطالما عمل عليها. ولم ينس أرناؤوط زوجته التي لطالما عرفته خلال خمسين سنة، فختم كتابه برسالة وجهها لها، يذكرها فيها بتفاصيل حياتهما التي شاركته فيها بحلوها ومرها، ويؤكد على رسالة الحياة التي يسلمها الأجداد للأبناء الذين يسلمونها بدورهم للأحفاد، لتستمر دورة الحياة.

جمان بركات