إشكاليات مفهوم الثقافة الوطنيَّة
هي المصطلحات دائماً تؤطر المقصود، وتجعل من الهدف غاية لا تدرك، كذلك المذاهب تغدو حالة مقيِّدة للإبداع، محاولة شدَّ المبدعين من أقلامهم إلى حالات غير إبداعيَّة.
مع انطلاقة نشاطات اتحاد كتَّاب العرب فرع (حمص)، ألقى الأستاذ (عطيَّة مسُّوح) محاضرة بعنوان: “إشكاليَّات مفهوم الثقافة الوطنيَّة” بدأها من خلال قصيدة للشاعر (وصفي القرنفلي) بعنوان: (اختزال) قال فيها:
“وعلى الشفاه تقطَّر الكرز اللذيذ، ورفَّت عطرا/وعلى ظلال الهدب أغفت قبلة، كالخمر، سكرى/أنا شاعر القبلات بيضاً، ما لهنَّ صدى وحمرا”
أثارت هذه القصيدة الكثير من المتاعب للقرنفلي، فقد تصدى له النقَّاد وبعض السياسيين، فكتبوا مقالات تتهمه بالخيانة، والتخلي عن القضيَّة، فدافع عن نفسه بقصيدة، عنوانها (عتاب) قالها ردَّاً على النقد القاتل، وأضاف: “إن الغزل لون من الخيانة، وإن قصيدتي (اختزال) من نوع المخدِّر الخطر”.
هذا أكبر دليل على ما رافق مصطلحي الالتزام، والثقافة الوطنيَّة من إشكاليَّات مفهوميَّة وتطبيقيَّة، وهذا ما نتج عنه ضعف في النقد، وقصور في فهم طبيعة الإبداع ووظيفته. فمصطلح (الواقعيَّة الاشتراكيَّة) هو مصطلح فكري نظري، يعمل على ربط الأدب بالواقع، ومصطلح (الثقافة الوطنيَّة) مصطلح سياسي، بينما مصطلح (الالتزام) هو موقف شخصي. بالنتيجة فإن المذاهب الفنيَّة والأدبيَّة هي مذاهب نقديَّة، فالنقاد يقومون بدراسة نتاج الأديب وتقويمه انطلاقاً من مذهب ما، هذا ما دعا المحاضر للاستشهاد بصرامة النقَّاد في النظر للأعمال الأدبيَّة منهم: عبَّاس محمود العقَّاد، وميخائيل نعيمة، والمازني، فقد كان لهؤلاء موقفاً صارماً في نقد الشاعر (أحمد شوقي)، بينما كرَّم شعراء الإبداعيَّة (أحمد شوقي) فانتخبوه في الاجتماع التأسيسي لجماعة (أبولو) رئيساً لها.
وتابع المحاضر سرد العديد من المواقف التي تظهر تشدد النقّاَد وعدم صواب آرائهم حيال المبدعين وخاصة الشعراء وأهمهم (الجواهري) الذي لم يجد جواباً لسؤال طُرح عليه من قبل أحد الإعلاميين عندما سأله: إلى أي مذهب تنتمي؟ فقال (الجواهري) لا أعلم. ما يدلُّ على أن المذاهب الأدبيَّة، هي عبارة عن رؤى فلسفيَّة للأدب.
وقد أبدع المحاضر حين أبرز حال النقَّاد فهم في حقلهم يزرعون، ويحصدون، ويحددون قيمة الأعمال الإبداعيَّة، بينما يصبُّ الأدباء فيض أحاسيسهم على الأوراق، دون أن يحملوا مساطر يقيسون بها أبعاد ما يكتبون، لتأتي الكتابة ملائمة لمقاييس مذهب أدبي محدد.
وقد استنتج المحاضر أن سبب الإشكاليَّات في مفهوم الواقعيَّة الاشتراكيَّة، ومفهوم الثقافة الوطنيَّة يكمن في إشكاليَّات النقَّاد لا إشكاليَّات المبدعين.، وهي ناتجة عن علاقة النقَّاد بالأيديولوجيا والسياسة، لا عن علاقة الأدب بذات الأديب أو بالمجتمع وقضاياه.
كما بيَّن ثلاثة وجوه لتناقض الثقافة والسياسة، واستشهد بقول الكاتب والباحث: (سيف الدين القنطار) في كتابه (الأدب السوري بعد الاستقلال) في معرض حديثه عن رابطة الكتَّاب السوريين: “لا شكَّ في أن موقفهم من الواقعيَّة الاشتراكيَّة وصل بهم إلى درجة التزمُّت المفرط، وقادهم إلى كثير من التساهل الفني، فالحماسة الشديدة للأفكار والانحياز الجارف لها، جعلهم يؤرِّخون أعمالاً لا قيمة أدبيَّة ولا فنِّيَّة تذكر لها”.
كما تطرَّق الباحث (مسُّوح) إلى مفهوم مصطلح (الالتزام) فالتزام الأديب القضايا الوطنيَّة والإنسانيَّة الكبرى، ليس موقفاً أخلاقيَّاً وإنسانيَّاً فقط، بل هو موقف سياسيٌّ، وبهذا يكون ارتباط الثقافة بالسياسة والحركة السياسيَّة أمراً طبيعيَّاً.
وخلص المحاضر إلى أهم مرتكزات الحوار حول الثقافة الوطنيَّة الجديدة وملامحها، من خلال الانتقال من الأحاديَّة إلى التعدديَّة، بالإضافة إلى توسيع طيف الثقافة الوطنيَّة، نشر الثقافة العصريَّة ومحاربة التخلُّف، وفتح النوافذ أمام الثقافة العالميَّة، والخلاص من وهم (النقاء الثقافي) كذلك تعزيز نزعة الشكِّ لدى المثقَّف والناس أيضاً.
فالثقافة الحقيقيَّة هي التي تبثُّ في العقول قلق الشكِّ الذي يوّلد التفكير البنَّاء بدلاً من طمأنينة اليقين التي تدفع إلى السكون والتسليم.
إن محاضرة الأستاذ (عطيَّة مسُّوح) غاية في الأهميَّة، لما لها من لمسات منصفة للأدباء والمبدعين، ولما تمتلك من جرأة في وضع الخطوط الحمراء المتقاطعة على قبَّعات المتسلِّطين.
سريعة سليم حديد