الأديبة أنيسة عبود الرواية حالة نبوءة مكثفة تحكي عن الماضي وتستشرف الحاضر والمستقبل
رسالتي هي الصراخ ضد الظلم والقهر، ونحن ككتّاب مسؤولون عن النضال من اجل الإنسان والقيم والأخلاق
في بيتها الريفي الذي يختزن بين جدرانه حكايات ألف ليلة وليلة، وتتناثر بين جدرانه رائحة نعنعها البري التقيت الأديبة أنيسة عبود التي حملت مشكاة كلامها تنثره أسئلة تنبش في ركام الزمن عن أجوبة لها، وشرعت أبواب حيرتها على حلم يغوص في عوالم أدبية تنسجها من أحزان بنفسجها التي تخبئها في روحها.. تداري كروب قلبها المضطرب، وتستر ما قد ينفلت من بريق حزن العين.. تنساب المفردات على صفحة روحها كما أغنية ترسم بحروفها حالات إنسانية بكل قلقها وارتياحها، حزنها وفرحها، أحلامها وانطلاقتها، فكان الورق رفيقها تبوح له ما يختلج في داخلها من مشاعر وأفكار.. لنقترب أكثر من عوالمها التقتها “البعث” لتستمع إلى بوح مكنوناتها الذاتية والأدبية، والبداية كانت مع تفاصيل عشقها للكتابة إذ تقول:
الكتابة بالنسبة لي المدى الواسع الذي ألجأ إليه وأرى نفسي أدور ضمن مجرته.. هي الشجرة المورقة في حياتي، والمنبر الذي استطيع عبره أن أقول ما أريد، وأعرّف نفسي ومجتمعي، وأنا ككاتبة سورية نشأت في الريف وعشت الظلم وعذابات هذا الريف، لذلك أستطيع القول إنني صوت هذا الريف المعذب، وصوت من أصوات المعذبين في هذا الوطن الجريح.
> في قراءتنا لتجربة المرأة العربية وتحديداً الإبداع الأدبي نرى أنها استطاعت عبر أدبها كسر تابو القداسة الذكورية الإبداعية، وأثبتت تفوقها الإبداعي.. هل وعي المرأة لذاتها شكّل لها هذه الخصوصية، أم أن هناك عوامل أخرى قرأْتِها من منطلق تجربتك ككاتبة؟.
>> المرأة الكاتبة التي كانت قبل جيلي أنا اقتصرت على نساء معينات، ليس لأن المرأة لم تكن لديها القدرة أو موهبة الكتابة، لكن كانت الظروف غير متاحة، كان المجتمع ذكورياً أكثر من اللازم، وكانت بنات العائلات الكبيرة والمعروفة هنّ من توفرت لهن المنابر والاطلاع والتعليم، بمعنى أن ثورة المرأة والانفتاح بدأت بعد خمسينيات القرن الماضي، فأصبحت تعي ذاتها أولاً ومن ثم المجتمع الذي حولها، وتعي أيضاً المظالم التي تصيب المرأة في مجال عملها، من هنا تكونت ثقافة معينة عند المرأة هي ثقافة البوح أو ثقافة الجرأة أن ترفع صوتها فنشأت عوامل كثيرة أدت إلى ظهور كاتبات من الطبقة الكادحة، والوسطى، ولم تعد الكتابة مقتصرة على نساء الصالونات فصارت المرأة تكتب عن ألمها وألم المجتمع وعن العادات والتقاليد والقيم، من هنا أصبحت كتابتها تضاهي كتابة الرجل، ويمكن في بعض المعاناة وبعض القضايا حتى الوطنية كالكاتبات الفلسطينيات نرى المرأة تفوقت على الرجل، وفي الفترة الأخيرة شكلت عبر مواضيعها ليس فقط هويتها بل شكلت أسلوباً وحالة، أصبحت تكتب ذاتها وخصوصيتها، فلغة المرأة وتفاصيلها تختلف عن لغة الرجل، هذه مسألة أعترف بها وأحسها، وربما هذا ما أعطاها خصوصيتها وتميزها عن الرجل فأصبحت لها هوية وسمة معينة، لكن مواضيعها أصبحت عديدة ومتنوعة كما مواضيع الرجل، لأنها تعيش الحياة كما يعيشها هو.
وعي المرأة لذاتها
> وإلى أي مدى أثرت كتابتك في المرأة وجعلتها حاضنة لجيل يعي الواقع المعاش، ويعرف كيف يتعامل معه ويميز الخطأ من الصواب فيه؟
>> كل كاتبة لها رسالة في الحياة، وربما رسالتي بدأت مع لحظة بدايتي في الكتابة كحالة من وعيّ لذاتي ولمحيطي وللبيئة من حولي، لذلك يجب أن يكون لي صوت ورأي مهمتي إيصاله للآخر، وإذا لم يصل فإن رسالتي تكون غير مكتملة، يجب أن أغيّر بالآخر نحو الأحسن كما غيرتني الكتب التي قرأتها، ، خاصة وعي المرأة لشخصيتها وكينونتها وهويتها واسمها واحترامها لذاتها لتنشئ جيلاً يحترم وطنه وبلده، هذه كلها قيم علينا أن نضمنها لأدبنا، وأنا أتقصد أن أكتبها بشكل مرمز حتى لا تكون بالصيغة المباشرةالمنفرة، فأتسلل إلى الرموز التاريخية والقصص الأسطورية والشعبية لأوصلها للجيل الجديد، لكن كل ذلك لا ينفع إذا لم تكن الكاتبة تتمتع بالثقافة العالية والأسلوب الشيق لأنه كما يقول (سومر ست موم) على الكاتب أن يمسك بالقارئ منذ السطور العشرة الأولى، وإذا لم أقدر الإمساك بالقارئ يفلت مني، ولا أستطيع أن أوصل رسالتي له، من هنا كل كاتب له رسالة وعليه أن يعيها ويقدمها بالطريقة التي يرى أنها تصل للقارىء، أنا رسالتي ربما هي الصراخ ضد الظلم والقهر، ونحن ككتاب مسؤولون عن النضال، من أجل الإنسان والقيم والأخلاق في زمن الضياع والفوضى هي السائدة فيه اليوم، فالكلمة مثل الرصاصة بل هي أقوى لأنها تبقى للمستقبل.
>وهل تعتبرين أنك استطعت إيصال رسالتك وحققت حالة من التغيير؟
>> ربما في الرواية استطعت أن أحقق شيئاً عبر ردود الفعل التي تأتيني عبر القراء السوريين أو العرب لكن الذي استطعت التأثير فيه أكثر هو من خلال المقالة الصحفية فأنا على مدار سنوات طويلة أكتب المقال الصحفي واستطعت أن أغير وهذا ما ألمسه من التجاوب عبر رسائل القراء التي تردني، ومن خلال الندوات التي أحضرها، أرى الجيل الشاب يحفظ المقال ويردده وهذا يدل على أنه لا أحد يحفظ شيئاً إذا لم يكن يحبه ويتأثر به، وإذا كنت استطعت التأثير بهذا الجيل ولو بجزء بسيط أكون قد قدمت شيئاً، فهذا الجيل، جميعنا مسؤولون عنه حتى لا يقع ضحية الضياع ويغيب في بئر الصمت العميق.
> أشرت في رواية “حرير أسود” إلى الغزاة الوافدين ليغتالوا ثقافتنا وتاريخنا ومستقبلنا، برأيك إلى أي مدى تستطيع الرواية استشراف المستقبل؟
>> الرواية كما أراها هي حالة نبوءة مكثفة، كما تحكي عن الماضي تستشرف الحاضر، وهنا تكمن مسؤولية الكاتب، وفي “حرير أسود” هناك استشراف كبير للمستقبل كما في الروايتين اللتين سبقتاها وهما (النعنع البري، وباب الحيرة) حتى أنه مؤخراً طبعت لي رواية في مصر بعنوان (قبل الأبد برصاصة) تتضمن هذه الحالة التي تحدث في سورية الآن، وهذا الوجع الفظيع. لذلك أحياناً تخرج النبوءة خارج سيطرتي، وهي مهمة في الرواية، ربما للمستقبل وللأجيال القادمة حتى تستفيق وتصحو وتميز الصديق من العدو، وإلى أي مدى تراب الوطن والإنسان في هذا الوطن غاليين لأني أكتب من تاريخ سورية ما يعبر عن تاريخ الوطن العربي، وكأن الحياة والتاريخ يكرران نفسيهما، وبصراحة عندما أفكر بالكتابة الآن أشعر أن نبوءتي انتهت لأن ما يحدث يفوق النبوءات كلها للأسف.
الرواية ديوان العرب
> جميعنا يعرف أن الشعر ديوان العرب وفي فترة من الفترات وتحديداً في النصف الثاني من القرن الماضي وحتى الآن نرى حضوراً أكبر للرواية.. إلى أي مدى نستطيع القول إنها الآن ديوان العرب؟
>> منذ ثلاثة عقود وحتى الآن أعتبرها ديوان العرب، لأن وهج الشعر خف خاصة بعد رحيل فطاحل الشعراء وكبارهم، -والآن هناك شعراء كبار، أنا لا ألغي أحداً أبداً- لكن الشعر أصبح حالة شعورية نفسية خاصة بالأديب، لم يعد الشاعر يكتب الحالة التي كان يكتبها المتنبي، ولا يؤرخ ليجمع تاريخ العرب، لذلك الشعر حالياً يفتقد لهذه التفاصيل التي يمكن أن تجعل منه ديوان العرب، وحتى الشاعر الحالي إذا أراد أن يكتب كما المتنبي لا أحد سيقرؤه لأن هناك “متنبي” واحداً وليس اثنين، من هنا وقع على عاتق الرواية كل هذا الشيء، لأن مجالها أوسع ومداها أكبر وتفاصيلها أكثر، وتستطيع أن تؤرخ لمرحلة أطول، فالقارئ عندما يقرأ الرواية يتمكن من الإحاطة بالأحداث ويقرأ تاريخ مخالف لما يكتبه المؤرخون، بحكم ما تتضمنه الرواية من أحاسيس وبشر، ومكان وزمان وكل شيء لذلك الرواية منذ ثلاثين سنة وحتى الآن هي حالياً ديوان العرب وهي المتفوقة حالياً. وهذا لا يمنع أن الشعر حالة وجدانية تلامس شعورنا.
تكريم الأديب
> إلى أي مدى يلعب المكان دوراً في انتشار الأديب على الصعيد العربي والعالمي، وبالتالي هذا يدفعني إلى سؤالك أنك نلت الكثير من الجوائز والتكريمات عربياً وعالمياً بينما في سورية اقتصر الأمر على جائزة واحدة برأيك ما هي الأسباب هل لأن مزمار حيّنا لا يطرب أهله أم ماذا؟
>> الحقيقة أنا كتبت عن هذا الموضوع بألم ليس عن نفسي فقط بل عن شعراء سورية، في المنابر العربية رأيت كتاباً وشعراء يكرمون ويدعون إلى المؤتمرات والندوات وينتشر أدبهم أكثر من السوريين، ولدينا في سورية أهم منهم بكثير، نحن في سورية توجهنا السياسي والعروبي والقومي، لنعترف أنه يؤثر حتى على الكاتب، أنا ككاتبة سورية لي توجه والتزام معين، لا أدعى إلى مؤتمرات معينة، أنا أعرفها، ثانياً نحن لا نجيد تسويق أنفسنا وأدبنا لأننا نفتقد لمؤسسات تتبنى أدبائنا، واتحاد الكتاب قاصر وعاجز ولا يعمل أي شيء، فأنا مثلاً كعضو اتحاد كتاب لا أعرف ماذا طبع من كتب منذ خمس سنوات، من المفروض أن تكون هناك سياسة تسويقية لمطبوعات الاتحاد كأن يعلن عنها في التلفزيون ولا يخفى على أحد تأثير الإعلام المرئي الذي يغزو الناس، أنا ككاتبة تصلني جريدة الاتحاد التي يسوق عبرها لإصداراته، أما القارئ العادي كيف سيعرف أنه صدر لأنيسة عبود رواية، أو لأي أديب آخر، بعكس مانراه في بيروت والخليج، عندما يصدر رواية لكاتبة يتبنونها ويساعدونها، وتتناقلها التلفزيونات ووسائل الإعلام، أيضاً في مصر أعرف كاتبات كتبن رواية واحدة أو اثنتين وترجمن لعدد من اللغات، لأنهم على اتصال بالمستشرقين والمؤسسات الدولية وبأفراد مترجمين وفي الوقت ذاته إعلامهم يصل إلى حدود كبيرة، أنا مثلاً عضو اتحاد الكتاب منذ عشرين عاماً ولم يقدم لي أي شيء ولم يعرّف بي وأنا التي حصلت على جوائز عربية وكُرمت دولياً والاتحاد غير مهتم، برأيي هناك تقصير بحق الكتاب والمبدعين، مع ذلك بجهدي الشخصي ونضالي وكلمتي الصادقة، استطعت الوصول إلى الوطن العربي، وهنا أشير إلى ضرورة اهتمام وزارتي الثقافة والإعلام بالكاتب السوري لأن الكلمة الآن هي التي تغيّر، وهي التي تفضح ما يجري في سورية والوطن العربي، خاصة للأجيال القادمة، الرواية والكتابة هما دليلنا لما يحصل الآن فليس كل شخص قادراً على النبش في أوراق التاريخ.
>بأسلوب مرمز أشرت في “حرير أسود” إلى سقوط الأحزاب والأيديولوجيات، وعبر شخصية البطل أشرت إلى حالة من العجز، هل تقصدين فيها عجز الايديولوجيا؟ أم عجز المجتمع وحالة العقم التي نعيشها تجاه قضايانا وأنفسنا؟ أم ماذا؟
>> (حرير أسود) تتضمن خطاً واضحاً يشير لهذا الموضوع لأنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وصمت الأحزاب التي يفترض أنها قومية وعروبية وتقدمية تجاه ما يجري حتى في لبنان وفلسطين، وضياع الهوية الفلسطينية شعرت أن هذه الأحزاب غير فاعلة، خاصة بعد أن درجت لدينا تعريفات ومصطلحات جديدة كالفوضى الخلاقة وغيرها، وهنا عبر منبر جريدتكم أسألهم: أين دوركم أيتها الأحزاب التقدمية الشيوعية والبعثية والناصرية أمام هذه الفوضى الهدامة، لماذا لا تتكلمون وتواجهون، هناك بعض الأصوات ظهرت لكن كانت خافتة، وبعض الأسماء التي كنا نعتبرها تقدمية وتنادي بالحرية، والسباقة بكلمة (لا) التي كانت على حق أحياناً (باعت نفسها) هذا يؤكد عدم وجود تربية عقائدية وأخلاقية في هذه الأحزاب التي كنا نتمنى أن تنهض بالجيل الشاب وتوعيه، وإذا كان حزب البعث مقصراً كما يتهمونه لماذا لم تقم هي بهذا الدور، برأيي الآن هناك حالة ضياع لهوية كل الأحزاب، نحن نسمع شعارات لكنها غير فعالة.
> بناء على هذا هل نستطيع القول: إن كتابتك بعيد عن أي فكر إيديولوجي منحك هذا الفضاء الحر في الكتابة؟
>> ربما أنا كإنسانة منتمية لبلدي ولهذا الشعب الذي يذوق الويلات الآن، أنا لا أخاف في كلمتي لومة لائم، لأنني أقول كلمة الحق، هذا فعلاً منحني فضاء أوسع أن لا أتحجم بعكس مايظن الآخر، أكتب ما يخطر في بالي ويخدم بلدي وقضيتي، ولم يطلب مني أحد في يوم من الأيام الكتابة في أي موضوع، قد يتم حذف بعض العبارات من مقالي –ربما- وهذا يحصل في العالم كله ، لا يوجد بلد في العالم إلا ولديه رقابة على المبدعين وعلى الإعلام، وأنا أفخر أنني ابنة هذا الشعب وأنحاز له، لكن أنا كتبت طيلة حياتي بكامل حريتي ووعي، أنا لا أحد يملي عليّ ولا تصدقي أن أحداً يمكنه أن يكتب إذا أملى عليه أحد، أنا أكتب ضميري وأنا شعرت من العار أن تتوقف أنيسة عبود عن الكتابة ودم الشباب السوري ينزف على الرصيف.
دلالة الأسماء
> إذا اعتمدنا مقولة (لكل مسمى من اسمه نصيب) إلى أي مدى هذه المقولة تنطبق على أسماء شخصياتك، هل لهذه الأسماء مدلولات تقصدينها في اختيارك لها؟
>> طبعاً الأسماء لها مدلولاتها والمكان له مدلوله، والأهم أن الرمز الذي آخذه من التراث وأستند عليه له مدلوله، والأهم من هذا الأسلوب لأن هناك روايات تشعرني أنها مجنحة، شعرية مثلاً (حرير أسود) الشعر قليل فيها، هناك روايات تضغط علي لدرجة أشعر أنني غير قادرة على الاستمرار معها وأريد إنهاءها ومنها (حرير أسود) شعرت أنني لم أعد قادرة على احتمال وجع أبطالها أكثر من ذلك، لكن الشخصيات التي تحمل الحدث ليس أي اسم يناسبها مثلاً (عليا) في (النعنع البري) لو أسميتها أي اسم آخر ربما ما استطعت أن أنسجها بهذه الطريقة، أيضاً (هادية) في (قبل الأبد برصاصة) لولا هذا الاسم لما استطعت الإحساس أن هذه الشخصية مداها واسع وكبير، الأسماء تدل علينا ونحن ندل على الأسماء لذلك هي مهمة جداً.
> تكررت في رواياتك فكرة غياب الأب، هل ترمزين لفكرة غياب المرجعية الأخلاقية والاجتماعية والأبوية بشكل عام، أم غياب الانتماء، الوطن كاحتضانه لأبنائه ماذا تقولين حول هذا؟
>> طبعاً غياب الأب في العمل الروائي قد يكون أحياناً غياب الأب الحقيقي، لأنني عانيت من غياب الأب، لكن هو الرمز فعلاً لغياب كل ما ذكرتِ، في العالم العربي منذ سنوات بعيدة -وأنا لاحظت منذ صغري- غياب القيم والمرجعيات والرموز، نحن لم يعد لدينا تقديس للرموز، للأعياد وحتى في أفراحنا أصبحنا نعيش حالة من التقليد، لدرجة أني الآن بصدد كتابة عمل روائي ضمنته أسماء أكلات شعبية كثيرة، واللباس، وأسماء أشياء مهمة في حياتنا لأنها تمثل جزءاً من هويتنا وشخصيتنا نراها تغيب كلها، لاحظي أننا حتى في حياتنا الاجتماعية، وفي أثاث منازلنا وأزيائنا لا نحمل خصوصية، وعندما تلتغي الخصوصية يُلغى جزء من ثقافتنا، ومن ذاكرتنا، وهنا الأمر أصبح خطيراً جداً، لذلك مهم جداً أن يؤسس الكاتب على الذاكرة لذاكرة مستمرة أيضاً.
> كأنك انتهجت في الروايتين الأخيرتين (حرير أسود- وقبل الأبد برصاصة) أسلوباً كتابياً لم نعتد عليه في رواياتك السابقة، كان هناك تكثيف للأفكار والاعتماد على المعلومة أكثر من السرد الشعري الذي اعتدنا عليه معك، هل هو حالة أخرى من التجريب الذي اعتدنا عليه في نتاجك الأدبي ككل؟
>> أنا لا أكتب عملاً روائياً إلا وأحاول أن أدخل التجريب فيه، هناك أعمال روائية تكون الفكرة جاهزة لدي لكن الأسلوب لا يناسبها مما يضطرني للانتظار فترة طويلة لأعرف كيف أخرج هذا الجيشان في داخلي، وبأي ثوب، خاصة في بداية الرواية لأن المقدمة مهمة عندي، أما في (حرير أسود) لم أعتمد على المعلومة فقط، بل على الحالة الشعورية والثقافية، وأيضاً المعلومة، لأنني لا أعرف الجولان والرواية تنتمي لبيئة الجولان، وباعتقادي أنها تؤسس لذاكرة الجولان، أنا مزجت بين المعلومة والمخيلة، وبرأيي (حرير أسود) من أهم الروايات التي كتبت وتتحدث عن الجولان.
حضور الزمن
> حضور الزمن أثناء الكتابة، هل تضعينه في بالك أم أنك تكتبين خارج الزمن ولاتقيدين نفسك بشيء؟
>> في معظم رواياتي لا أتقيد بالزمن دائماً، عندي كما يقولون فلاش باك/ أعود بالزمن إلى الوراء أدمج الزمن الماضي بالحاضر، لكن من خلال كتابتي أحاول السيطرة على زمني الحالي، فإذا لم أكتب أشعر أن الزمن يفلت مني، والكتابة هي التي تؤطر الزمن، زمن المبدع الذي هو لانهائي أحياناً ويختلف عن زمن الإنسان العادي، لذلك أحياناً يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل في رواية واحدة، وصدقاً أنا ككاتبة إذا كنت منسجمة مع حالي ومع الحدث الذي أكتبه، أشعر أنني أعيش هذا الزمن ربما من أيام بعل حتى أصل إلى مذابح جسر الشغور.
> وهل حققت الزمن الذي ترغبين أن تعيشيه؟
>> في الرواية فقط، أنا مازلت كما أي مواطن خُلق في بيئة مكافحة أناضل ليكون لي زمني، زمن بلا ألم، زمن الحرية، المساواة، العدالة، زمن الاعتراف بالآخر، زمن الاعتراف بي كإنسانة هذا الزمن الذي لانستطيع الوصول إليه، أما في الرواية، ربما أنا من أخلق الزمن الذي أحبه وأراه مناسباً، وأستطيع أن أحقق من خلاله قليلاً من الألم الذي يكتنف الإنسان.
> ما وسيلة الاحتجاج لدى أنيسة عبود؟
>> أنا سأبقى أحتج حتى الموت ولايوجد غير الكتابة، وأحياناً ربما يصل الأمر إلى الصراخ، بمعنى أن الكلمة هي أهم وسيلة للنضال من أجل الحياة والجمال، أنا ككاتبة لدي الكلمة، لكن إذا اضطرني الأمر للدفاع عن وطني أن أحمل البندقية صدقيني سأحملها.
> ترجمت بعض أعمالك لأكثر من لغة ماذا يعني لك ذلك؟
>> ترجمة أعمالي بالنسبة لي حلم، وتحديداً “النعنع البري” ترجمتها كانت صعبة، لكن ربما أن وصولها للوطن العربي كان عندي أهم، لأن القارىء الغربي لايعنيه كثيراً وجع الإنسان العربي لأنهم ينظرون للعربي بمنظار آخر، لذلك أنا يعنيني انتشاري في الوطن العربي وبقاء اسمي للمستقبل أو العمل، هذا ما يعنيني أكثر.
> عبر نتاجك الأدبي طرحت الكثير من الأسئلة خلال هذه الأربع سنوات التي عشناها بمرارة وألم ماذا حصل بأسئلتك؟
>> الأسئلة أصبحت موجعة أكثر، وزادت أكثر وتحولت إلى أسئلة من نمط آخر وزادت ألماً وإيلاماً، وبقي السؤال حاضراً لدي لماذا نفعل هكذا، ما الذي يحدث، دائماً لدي هذه الأسئلة، ماذا سنقول للمستقبل وللزمن، ماذا سنقول للأجيال، عندما تحضر الدماء كنافورة في وجه الأجيال القادمة كيف سيجيبون عليها، والآن أكتب رواية أصبحت شبه منتهية، سيأتي زمن تنبع الدماء من نهر العاصي نوافير، وتصرخ في النعنع والبقدونس الذي تقطفه الأم وترى دم ابنها فيه، ماذا ستقول، هذه هي الأسئلة التي تحز في نفسي، وإذا لم أستطع أن أجعل هذه الدماء تصرخ في روايتي أكون قد فشلت في تحقيق أي شيء، ليروا مايحصل في الوطن، وهذا الانهيار الأخلاقي وفظاعة الإنسان، كانت أمي امرأة عجوز تقول لي يا ابنتي الإنسان يخاف من الإنسان وليس من الوحش، بمعنى أصبح الإنسان مخيفاً أكثر من الوحش، والسؤال المؤلم لماذا؟
> هل هناك شيء لم أحدثك عنه تودين قوله؟
>> أود أن أقول إننا ككتاب، حتى المنتمين ويحبون سورية، مقصرون بحقها، يجب أن نرفع الصوت أكثر، ومن يقدر أن يصرخ أكثر في كتابته ليصرخ، لربما أحد ما يسمع صوتنا ويستيقظ من هذه الغيبوبة، يجب أن نحب سورية وشعبنا أكثر، وهنا تحضرني حالة من فترة الثمانينيات والأزمة الكبيرة التي عاشتها سورية، والحصار العنيف، وكنت أعرف جبرائيل سعادة، وكنت في بدايات الكتابة، حدثني عن المهمة التي أرسله فيها الرئيس حافظ الأسد إلى أوروبا ليجول على المواقع الثقافية والمنتديات الأوروبية، ويُعرّف بسورية ويتحدث عن تاريخها وحضارتها، ودور الكلمة الآن أساسي وفاعل، ومن الضروري إيفاد المثقفين والكتاب للقاء الكتاب العرب والأجانب، لتغيير نظرتهم وآرائهم، وكانت د.نائب رئيس الجمهورية نجاح العطار أوفدتنا في عام 2012 كوفد ثقافي وأدبي وإعلامي مع كتاب وباحثين لبنانيين إلى أنقرة، وأقمنا ندوات، والتقينا بالأتراك وبأشخاص محبين لسورية، واستطعنا تغيير الكثير من الأفكار. برأيي يجب أن نرفع صوتنا أكثر.
حاورتها : سلوى عباس