ثقافة

وضاح رجب باشا.. يحلل المساحة الصوتية لوديع الصافي

 

الموهبة تتخطى أحياناً حدود الدرجات الأكاديمية العليا، هكذا حال الفنان الراحل وديع الصافي الذي لم يتابع دراسته الموسيقية، إلا أن موهبته أهلته ليصبح من أشهر فناني العصر، ويشغل مكاناً ويحقق حضوراً قوياً في زمن وصفه الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا “بالزمن الجميل” ولمناسبة مرور سنة على وفاة صاحب الحنجرة الذهبية والابتسامة الساحرة، خصص الباحث المحاضرة الشهرية من سلسلة محاضرات موسيقا الزمن الجميل في المركز الثقافي العربي في (أبو رمانة) لإحياء ذكراه والحديث عن صفاء صوته ومساحته الكبيرة وقدرة حنجرته على التلوّن مابين أبعاد متعددة وأنواع الغناء الوطني والجبلي والعاطفي ليبقى موال “ولو” ومضة حانية تغمر كل من جال في مخيلته.تميّزت المحاضرة بالبعد التحليلي الارتجالي لمؤسس المدرسة الصافية، وشغل الجانب السمعي لمقاطع صوتية ومرئية من ملف أغنيات وديع الصافي الذي تجاوز ألف أغنية المساحة الأكبر من المحاضرة.

نشر الأغنية اللبنانية
في بداية المحاضرة استعرض الباحث شريط حياة وديع الصافي متوقفاً عند مرحلة طفولته ونشأته في بيئة فقيرة ثم نزوحه من محافظة نيحا الشوف إلى بيروت ودراسته في دير مخلص الكاثوليكي، رغم أنه ماروني، إلى أن أجبرته الأوضاع المادية على ترك الدراسة ليمضي في طريق الفنّ، فانطلق من إذاعة الشرق الأدنى حينما فاز بالمرتبة الأولى بالمسابقة، وأطلقت عليه اللجنة الفاحصة اسم وديع الصافي لصفاء صوته ونقائه، بدلاً من وديع فرنسيس، ثم اختصر الباحث مراحل حياته ليتوقف عند المحطات الهامة التي شكلت منعطفات خاصة مثل زواجه من ملفينا طانيوس إحدى قريباته، وسفره من لبنان إثر اندلاع الحرب الأهلية ليجوب العالم ناشراً الأغنية اللبنانية القائمة على الفلكلور وحصوله على ثلاث جنسيات المصرية والبرازيلية والفرنسية إلى جانب اللبنانية، وحصوله أيضاً على الجنسية السورية، وتابع الحديث عن الأوسمة التي حصل عليها، ومنها وسام الأرز بمرتبة فارس الذي منحه إياه الرئيس إميل لحود، كما توقف عند اهتمام الحكومة السورية به، ومعالجته أثناء مرحلة المرض.

مساحة صوتية صافية
في القسم الثاني والأهم من المحاضرة أشاد الباحث بقدرة الصافي على دخول الوسط الفني العريق وتربعه على عرش الشهرة والمحبة، رغم معاصرته عمالقة الموسيقا والغناء .وتميّز بأداء الدرجة الموسيقية بشكل كامل وواضح، وهذه موهبة تضاف إلى مساحة صوته الصافية والنقية التي توازي مساحة صوت عبد الوهاب وأم كلثوم، فكان قادراً على تأدية مجمل الأبعاد الصوتية وامتلك إمكانية عالية في التدرج مابين الصوت المنخفض إلى المرتفع وما بين الرفيع إلى الغليظ بالإتقان ذاته وبإحساس دافئ وحنان رافق نغمات صوته، إضافة إلى قدرة حنجرته على التلوّن وتمكّنه من أداء جميع الأنواع الغنائية من الوطني إلى العاطفي إلى الجبلي إلى الميجانا والعتابا، وبهذا تفوق على عبد الوهاب الذي كان يؤدي لوناً واحداً ولم تكن لديه القدرة على التلون، ليبقى وديع من القلة الذين يستطيعون التحكم بحنجرتهم .ولم يتميز بقدراته الصوتية فقط وإنما بابتسامته الساحرة التي لم تفارق وجهه في كل أغانيه. وهنا عرض الباحث سلسلة مقاطع صوتية وصوتية مرئية لبعض أغنياته المميزة مثل “علله تعود علله” واتسمت بطابع خاص كونها من ألحان فريد الأطرش، ونوّه إلى أنه تعاون مع ملحنين لبنانيين ومصريين وسوريين أيضاً، فاستمعنا إلى “طلوا حبابنا طلوا وياعيني على الصبر وويلي لويدرون، وبالساحة تلاقينا وراحوا الغوالي” ، وتوقف عند أجمل أغنية وطنية ذاع صيتها في أرجاء الوطن العربي وبلاد الاغتراب “يا ابني بلادك قلبك عطيها وغير فكرك ما بيغنيها” وأظهر الباحث قدرة الصافي على التعبير الصوتي والنطق الصحيح للأحرف ومخارجها وتغييره بمعنى المقام كما في أغنية “راحوا الغوالي يا دنيا” القائمة على مقام الراست، فماهية المقام تشعر بالفرح، إلا أن صافي غناه بطابع حزين، ومن الأغنيات المشهورة انتقل إلى الأغنيات المغمورة التي غناها في مرحلة شبابه مثل طقطوقة “عل الآدومية” وهي من الألحان الخفيفة ذات الوقع اللطيف ومنها إلى الأغنية العاطفية “غلطنا مرة وحبينا”.

جنات على مدّ النظر
وقد أفرد الباحث مساحة خاصة لأغنية “جنات على مد النظر” المأخوذة من سهرة غنائية والمستقاة من ألحان فيلمون وهبي والتي حظيت بشهرة كبيرة وانتشرت على مدى مساحة الوطن العربي، ووصفها الباحث بأنها أغنية الحب والسلام والتغني بالطبيعة، لاسيما أن “وديع” غناها في أجمل سنوات عطائه في الستينيات حينما كان لبنان ينعم بالهدوء والأمان ويتمتع بالنغم الأصيل .ومن ثم وصل إلى رائعته “قتلوني عيونو السود” وتبقى أغنية “عندك بحرية يا ريس” ألحان عبد الوهاب أجمل أغنياته لتدرج الألحان الرائع والتأثير الأكبر كان لصوته الذي وظّفه بإبداع لافت فيها.
والدقائق الجميلة في المحاضرة كانت مع صوت وديع الصافي حينما صدح صوته بغناء أنت عمري لأم كلثوم، وكما قال الباحث اختفى فيها الصوت الجبلي لنسمع صوتاً مغرقاً في الرقة والإحساس العاطفي، ومنها إلى الأغنية الشهيرة لعبد الوهاب يابابور قولي والتي غناها وديع ولاقت صدى واسعاً وبدا فيها تلون صوته الواضح مما يدل على تكيف الصافي مع كل الأجواء الغنائية.

الغناء الموزون
ومن روائعه في المرحلة الأخيرة من حياته اشتراكه مع ربا الجمال بتقديم دويتو غنائي في مؤتمر الموسيقا العربية الرابع في القاهرة ،إذ قدما مقاطع من الغناء الموزون وهو أصعب فنون الغناء لأروع مسرحية غنائية “قيس ليلى” لأحمد شوقي عرضها الباحث على الشاشة، وأشاد بأداء وديع الصافي وقدرة ربا الجمال على موازاته بالأداء، كما قدما بالمؤتمر ذاته مقطعاً لدويتو ” ما حلا الحبيب ” لعبد الوهاب ونجاة علي.
وبعد ما يقارب الساعتين أنهى الباحث محاضرته بسماع موال “ولو” الذي خلّد وديع الصافي في أذهان الناس وحظي بإعجاب محمد عبد الوهاب وكان متقداً بالعاطفة ومغرقاً بالحزن .وأكد بأنه لم يتناول إلا جزءاً بسيطاً من ملف وديع الصافي الذي تجاوز ألف أغنية.
وعلى هامش المحاضرة تحدث الباحث عن شقيقة وديع الصافي هناء الصافي التي دخلت الوسط الغنائي وكانت لها أغنيات مشهورة مثل “يابيتي يابويتاتي” غنتها فيما بعد صباح.
ويبقى وديع الصافي أسطورة لاتُنسى.
ملده شويكاني