“إني أمك يا شاكر”.. حين زار يوسف العاني دمشق؟
خرّ ساجداً على ركبتيه، “كجلمود صخر حطّه السيل من عل”.. لامست ركبتاه مقدمة حذاء الملك، تلقف رأس الشاب بكلتا يديه، شده إلى حجره، انحنى نحو الرأس المأسورة، أخذ أنفه ما يريد من رأس الشاب، مسد شعره بخده المتورد، حينها كان عقد ماسي ينفرط من عيني الملك، لتتغلغل حباته في رأس الشاب، شهقت بعض الجميلات الحاضرات عندما رأين الموقف، ليتلمسن عقوداً ماسية طوقت أعناقهن، في حالة لا إرادية.. أهي الغواية أم القدر المكتوب؟. حين وصل ابن الثالثة عشرة إلى بغداد لأول مرة، هالته قصة الحضارة، ذرع شارع الرشيد، أغوته حد الذهول، مكتباته، مقاهيه، لم يزل صوت النرد “يدش” في أذنه، حين ابتعد عن مقهى المتنبي، أنهى المغني أغنيته “على جسر المسيب سيبوني”.
في ساحة “كهرمانه”، علقت قطعة قماش بين نخلتين باسقتين، كتب عليها، يوسف العاني يقدم مسرحية “إني أمك يا شاكر”، كان هذا صيف عام 1958. في محاولة يائسة استطعت إقناع عمي -الذي رافقني من دمشق إلى بغداد- أن يأذن لي بالذهاب إلى المسرح، حيث تعرض مسرحية “إني أمك يا شاكر”، وهذا ما حصل بالفعل، هي المرة الأولى التي أرى فيها الممثلين وجهاً لوجه على الخشبة، وحين انتهت المسرحية، خرجت وأنا أحفظ كل أدوارها؟.
حشد من المصورين والإعلاميين تجمهروا أمام صالة الضيوف في “فندق الشام” بدمشق، أضواء كاميراتهم شاغلت الحضور، كنت حينها أراقب الحالة، وأنا أعيد للمرة الألف المقدمة التي كتبتها، لافتتاح الجلسة الحوارية لعملين مسرحيين، كان هذا على هامش مهرجان “دمشق المسرحي” 2006، والذي عقد بعد رحيل عملاق الأدب العربي محمد الماغوط، ناسياً علبة سجائره وسيدارته الجوكي، فوق طاولته المعهودة في مقهى “الهافانا” الدمشقي، خرج غير آبه لنداء فتى المقهى، الذي لحق به، وقد توارى بين الجموع. في الأمس صدر العدد الأخير من صحيفة “الأسبوع الأدبي”، وكنت نعوت الماغوط، في مقالة عنونتها “أظنه يغفو الآن”، وزعت معظم أعدادها على ضيوف المهرجان.. على حين غرة، لكزني أحدهم في خاصرتي، قطع عليّ قراءة المقدمة قائلاً: قم والحق بي، هناك رجل يريد رؤيتك؟. إصراره جعلني أمشي خلفه، بعدما علمت منه بأننا لن نغادر بهو الفندق.. توقفنا أمام رجل مسن، مع سيدة لم تزل تحتفظ بشيء من وسامتها على الرغم من مقاربة عمريهما. توجه صاحبي بالكلام للرجل العجوز: هذا هو الرجل الذي سألتني عنه بالأمس، مشهور خيزران.
عيناه كانتا تأكلان شيئاً من وجهي، سرت في جسدي قشعريرة خوف، قطع شرودي قائلاً: اعتقدتك أكبر سناً، ألست من كتب في الأمس “أظنه يغفو الآن”؟. وأومأ نحوي بصحيفة “الأسبوع الأدبي”، وعيناه ما زالتا تحدقان بي.
-وهل تعرفه أيها الفتى لتكتب عنه بهذه الطريقة الملفتة؟.
-نعم أعرفه، هو معلمي، وأحفظه عن ظهر قلب إن شئت.
-”أظنه يغفو الآن” بسلام. قطع صديقي ثواني الصمت التي مرت، قائلاً: يبدو أنك لا تعرف ضيفنا يا مشهور؟. التفت إليه دونما أي تعليق، منهياً حالة الإرباك: -أعرفك، الأستاذ يوسف العاني من العراق. خرجت من فمي وكنت أسمعها.. -”إني أمك يا شاكر”.
في هذه الأثناء، فقدت ساقيّ، أشعر بأنني أقف على الركبتين، تغيرت ملامح الرجل المسن، وهو يسأل: وتعرف أيضاً “إني أمك يا شاكر”؟!. قاطعته: -وأحفظ كل أدوارها، شاهدت عرضها الأول في بغداد عام 1958. استفقت من غيبوبتي على تصفيق الحضور، لم أتجرأ مطلقاً على النظر في عينيه، كي أمسح بعض الدمعات الهاربات، وكأني بها “إني أمك يا شاكر” طفلاً من أطفاله فقده منذ زمن، ووجده الآن في دمشق، وبعد موافقته حضور ندوتي، تحتم عليّ تغيير المقدمة التي كتبتها سلفاً، لأن طارئاً قد حدث، وهو حضور عميد المسرح العربي.. حين اعتليت الخشبة، بدا المسرح في عيوني بحجم دمشق، بدأت القراءة، ولكنني وجدت أن كل الكلمات لن تفي “يوسف العاني” حقه، دسست الورقة في جيبي، وأنا أغادر نحو الضيف، أخذته من يده إلى الخشبة: قل ما تريد يا سيدي.
-إخوتي وأبنائي، أسرة المسرح، أوصيكم بتلك الخشبة، (ضربها بأخمص قدمه)، المسرح هو بيتكم، وطنكم الصغير، من لا يخلص لهذا المسرح، لن يخلص لوطنه. قال هذه الكلمات وغادر.. يوسف العاني “90 عاماً”، (وفي مقابلة تلفزيونية سلطت الضوء على تسلمه جائزة الشارقة للإبداع المسرحي بمناسبة مرور سبعين عاماً على صعوده الخشبة للمرة الأولى1944)، بث جزءاً من الحفل، وعندما دعي العاني إلى الخشبة لتسلم جائزته، كان يتكىء على عكاز، رمى عكازه، قائلاً: “عيب عليّ أصعد الخشبة وبيدي عصا”، جال فوق الخشبة كطائر فينيق يود التحليق.
طلال مرتضى