الأم السورية..لا تقع
عادت إلي ذكرى قريبة، كنت قد وقعت تحت رحمة سطوتها طويلا من الأيام، وأنا أشاهد تلك المرأة السورية ،التي هربت بأولادها من المذبحة التي ارتكبها أبناء الحقد والغدر، ببعض قرى الساحل السوري. اذكرها الآن وكأن ما حدث حدث البارحة ،اذكر بريق عينيها المتوقدتين وتجاعيد وجهها الآخذة بالانفراج كلبوة خاضت صراعا لا يرحم مع الوحوش. وقفت أمام عدسات الكاميرات ،وهي تتلمس يقين بقاءها وأولادها على قيد الحياة، من عيون الناس المتحلقين حولها ،بعد أربعة أيام قضتها بين الأحراج الكثيفة، المكتظة بالضباع وحيوانات أبناء آوى، هربا من الذبح الحلال الذي شاهدته بأم وجعها ورعبها ،يّعلق رقاب الأطفال المقطوعة فوق حبال الغسيل ،وينشر أطرافهم المبتورة من سنيهم اليانعة ،على قارعة الطرقات وجنبات الأرصفة.
هاهي تشم رائحة الحياة التي كادت تغيب عنها وعن أطفالها من روائحهم الأليفة، تحكي بصوت متهدج ووجه منطفئ تفاصيل تلك الحكاية التي لا تحدث إلا في الأفلام “التي نصفها بكونها تبالغ جدا في تقديم الحكاية”.
حكاية الموت الذي وطأته بالموت والحياة التي قبضت على خيوطها الواهية بأظافر الأم عندما تهم نية سيئة ليد غدر تريد أن تسرق أولادها منها، حكاية هروبها بأولادها من القتل المذهبي الذي تمارسه عصابات “آل سعود الوهابية، وعلمانية المخابرات الأمريكية والإسرائيلية على الأراضي السورية منذ أكثر من ثلاثة أعوام”.
عندما نظرت تلك السيدة إلى الحرية والديمقراطية المحفورة بشائر حقدها على حد السيف ونصال الغدر، أدركت أن ما تراه هو الشر بعينه منتحلا شكل أناس لا يقيمون لشرعة الإنسانية أي اعتبار، ولا ينظرون إلى الحياة التي لا تتماشى خطواتها مع أفكارهم الظلامية، إلا بمنظار الهباء والإقصاء النهائي الدموي لصاحبها عن قيدها.
تركت بيتها وعلى أطراف أثوابها وبين يديها وفي غريزتها الأمومية، تعلق أطفالها بأنفاسهم المتقطعة، تروم الجبال الموحشة، مختبئة بين الشعاب والكهوف ،تطعم أطفالها من حشائش الأرض ،وتتسلل خفية في الليل إلى الكروم القريبة منها لتقطف ما تبقى من ثمار الصيف ناضجة في أغصانها وجافة مرمية تحت جذوع أشجارها وتلقمها لفلذات كبدها، وعندما يشتد بهم العطش تهيم على وجهها لتتبع أثر جدول ماء صغير، قبل أن تتقطع بها السبل وتضطر مرغمة لأن تسقيهم من مياه الصرف الصحي.
أتخيلها وهي تنتظر العتمة بفارغ الصبر لتتدثر مع أطفالها بسترته السوداء الحالكة خوفا من الضوء الفاضح، وبعد أن يهبط ليل العالم كله وعتمته القاسية عليها، تحضنهم وتلفهم بأحضانها بعد أن تستقر بهم بقلب مجاري المياه كي لا تقترب منهم الوحوش البرية، وعيونها تشم بالعتمة الضارية أي صوت بشري صار يعني لها الموت الأكيد ،بعد أن نشر حفدة الأباليس ،الرعب في تلك التلال الآمنة، رعب لا ينتهي بمجرد الموت أو الهرب منه، لأنه يبقى بتفاصيله البشعة والكابوسية عالقا في الأذهان وشاخصا في الأحداق التي لم تر هذا القبح والإجرام من قبل.
أسمع عيونها تجيبني وأنا اسألها من خلف الشاشة التي شاهدتها محتوية جسدها الضئيل بخجل من الدونية التي وصلت إليها الإنسانية: هل كنت خائفة؟ تجيبني نظراتها: ما من وقت للخوف، الخوف شعور طبيعي لدى الإنسان، لكن ما كنت أواجهه ليس مخيفا ولا تستطيع أن تصفه بأي صفة معروفة، ما كنت أشعر به هو الألم، ألمي من استئناسي بالوحوش الضارية التي تجوب تلك المناطق ،وهلعي وخوفي من خطوة إنسان لطالما لم أره إلا أخا وابن عم، من أي قرية ومن أي مدينة سورية كان.
ولكني أرى على ثوبك المطرز بالرعب بقع طين جاف، هل وقعت؟ تجيبني كما أجابت أم سعد “غسان كنفاني”: الأم السورية الحقيقية لا تقع.
تمام علي بركات