ثقافة

وضاح رجب باشا يتناول تطورتلحين القصيدة الغنائية العربية

الغرام بالمفردة وبرقة الصورة البلاغية المتكاملة بين أسطر القصيدة المعبّرة عن لوعة الاشتياق وانتظار العاشق دفع الملحنين الأوائل إلى الإقبال على تلحين القصيدة التي تدخل ضمن الصيغ الغنائية في الموسيقا العربية ،ليحفل تراثنا الموسيقي بجماليات الشعر الموزون المغنى بأجمل الأصوات ،وقد اختار الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا نماذج من غناء السيدة أم كلثوم التي غنت ما يقارب أربعين قصيدة متناولاً أيضاً ذكاء محمد عبد الوهاب بتلحين وغناء القصائد وبراعة السنباطي ،ليفاجئنا برأيه أن السنباطي كان الأقدر على فهم خصائص تلحين القصيدة، وقد تناغم الجانب السمعي مع الجانب التحليلي السردي الارتجالي لتطور تلحين القصيدة العربية بحضور عدد كبير من المتخصصين والمهتمين.
بدأ الباحث محاضرته بالحديث عن الصيغ الغنائية في الموسيقا العربية والتي تتشكّل من تسعة أنماط (القصيدة –الموشح –الدور –الطقطوقة –الموال- المونولوج –الديالوج –التريالوج-النشيد) ،وعلق على بعض الملحنين في العصر الحديث الذين لم يلتزموا بهذه الأطر الفنية رغم وجود مسار واضح رسمه العباقرة الأوائل لكل من الدور والمونولوج والقصيدة وغيرها ،وأطلقوا على نتاجهم اسم أغنية ،التي لايوجد لها تعريف علمي دقيق وهذا ما أدى إلى تدني مستوى الأغنية العربية واستسهال التلحين ،ثم عاد إلى القيمة الجمالية والفنية التي قدمها الملحنون الأوائل في تلحين الأبيات الشعرية فقدموا نتاجاً مميزاً وتعود الصيغة الموسيقية الأولى للقصيدة إلى منتصف القرن الثامن عشر حينما وُضع خطّ ثابت لها ،وخسرنا الكثير من التراث الموسيقي للقصيدة قبل هذا التاريخ بسبب عدم التدوين ونقل الجمل التلحينية شفاهاً مما عرضها للتشويه ،ويمثل تلحين القصيدة العربية إبداعات عظماء الموسيقيين عبْرعدة أجيال ويعدّ أيضاً الأساس الراسخ لكل من يتعلم الموسيقا العربية ولكل العاشقين والمتذوقين.
ولابدّ من التعرّف إلى كل قالب من القوالب الموسيقية ،وتعدّ القصيدة من أقدم أنماط الغناء العربي على الإطلاق ومن أوائل الفنون الشعرية ،وقد سبق الشعر الزجل ثم الحدّاء وهو اللحن الذي يغنى للجمال وقت السفر وذلك قبل ظهور المنتديات الموسيقية والأدبية ، وبعد التوجه نحو القصيدة كانت المادة الشعرية هي المحور الأساسي للقصيدة المغناة ذات البحر الواحد والقافية الواحدة و،يملك المغني حق الغناء وحده دون مصاحبة المنشدين ويرتجل اللحن وفق إحساسه ،ويحوّل أبيات القصيدة إلى موال مثل كثير من القصائد ،أشهرها كان موال :
” أغار عليها من أبيها وأمها
إذا حدثاها بالكلام المغمغم ”
الغناء اللحني
بدأ التطور اللحني للقصيدة في منتصف القرن الثامن عشر من خلال وجود الملحن عبده الحمولي الذي وضع أول لحن للقصيدة ومن أشهر القصائد المغناة في هذه المرحلة : قصيدة أبي فراس الحمداني “أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر “،ثم تتالت القصائد لابن الفارض مثل قصيدة “ته دلالاً فأنت أهل لذاك ” ثم ظهر في عالم تلحين القصائد أستاذ السيدة أم كلثوم الشيخ (أبو العلا محمد )الذي لحن الكثير من القصائد لها مثل ” أنت المنى والطلب ” ثم قصيدة “حالي في هواها عجب ” كلمات أحمد رامي وتلحين القصبجي إلا أن القصيدة التي حظيت بشهرة كبيرة آنذاك هي ” أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه ملك الفؤاد فماذا عسى أفعل ” من مقام البيات اعتمد فيها الملحن الشيخ زكريا على التغيير باللحن والابتعاد عن مسار الوتيرة الواحدة ،فكانت أم كلثوم تغني كل شطر بطريقة مختلفة ،”شعر ابن نبيه المصري ،وعُدّت من أمات القصائد ،وتابع الباحث حديثه عن التطور اللحني بظهور طبيب الأسنان أحمد صبري النجريدي المولع بالموسيقا والذي لحن قصيدة ” مالي فُتنت بلحظك الفتّاك ” كلمات علي الجارم ،وبدا التطور واضحاً في التركيز على الجمل اللحنية ذات المدود الطويلة لأحرف المدّ (الألف والواو والياء )وابتداء من عام 1920 اعتمد الملحن على الجمل اللحنية القوية لاسيما إذا كان الصوت قوياً مثل صوت أم كلثوم ،وفي هذه المرحلة استفاد القصبجي من المساحة الصوتية اللا محدودة لصوتها ،وتميّز بتجديده الجمل الموسيقية اللحنية  ومما ساعده على ذلك أنه تلميذ سيد درويش الذي وصل إلى قمة التجديد في جمله الموسيقية اللحنية القابلة للتطوير والتي ما زالت تُدرس حتى الآن كما ذكر الباحث الموسيقي وضاح باشا في محاضرته .

السنباطي والجمل اللحنية الثابتة
المرحلة الثانية التي توقف عندها الباحث مطولاً كانت مرحلة دخول السنباطي تلحين القصائد وتعاونه مع أم كلثوم ليقدما معاً رائعة الموسيقا العربية الأطلال ،وتميز السنباطي بإيجاد جمل لحنية ثابتة تتكرر في كل شطر ـواستخدم هذا الأسلوب في كل قصائده الملحنة حتى تخدم الجملة الموسيقية المفردة وتظهر جماليتها على حساب اللحن المكرر بشكل رتيب ،بدا هذا واضحاً في غنائها قصيدة ” سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها ” لأحمد شوقي ،ثم تعمق السنباطي بالتلحين ليظهر إبداعه جلياً في تلحين القصيدة الدينية “عرفت الهوى ” كلمات طاهر أبو فاشا وبدا تأثره الواضح بسيرة رابعة العدوية وهنا حافظ السنباطي على المدودات المطوّلة :
” تائب تجري دموعي ندماً ” وكان من المقرر أن تدرج ضمن أغنيات فيلم رابعة العدوية لكنها حُذفت منه لعدم وجود مساحة كافية ،وتدرج إبداع السنباطي إلى أن وصل إلى قصيدة الأطلال التي أبدعت بها أم كلثوم وصُنفت من الأغاني الخالدة ،وتوقف الباحث هنا عند التغيير الواضح الذي أضافه السنباطي في تلحينه هذه القصيدة وخروجه عن نمط الجمل اللحنية الثابتة .
” يا فؤادي لاتسل أين أيام الهوى ”
ذكاء عبد الوهاب بالمقدمات اللحنية الطويلة
وبعد السنباطي دخل عبد الوهاب عالم تلحين القصيدة بالتعاون مع أم كلثوم ليشكلا معاً أجمل أساطير الموسيقا العربية ..،وجاء بأسلوب لحني يختلف اختلافاً جذرياً عن أسلوب السنباطي ،وبدا ذكاء عبد الوهاب في تقديم الجمل اللحنية على حساب المفردة حتى إنه كسر الوزن الشعري في بعض الأشطر لخدمة اللحن كما في
“قصيدة هل تذكرين بشط النيل مجلسنا ”
وبدا التطور اللحني عند عبد الوهاب بإشراكه الجمل اللحنية بالأداء الغنائي فابتدع المقدمات الموسيقية الطويلة ،وتجلت عبقريته بتوظيف إمكانات صوت أم كلثوم لاسيما بعد أن انحسرت مساحة صوتها في مسار واحد كما قال الباحث في محاضرته ،فتتالت تحف الموسيقا العربية والغناء الأصيل مع أنت عمري –أغداً ألقاك –هذه ليلتي – فكروني …،ثم تناول الباحث مسيرة عبد الوهاب في تلحين القصيدة إذ لحن الكثير من القصائد لنفسه ولغيره من المغنين لكنه استأثر بالأجمل لنفسه لأنه يؤمن بأنه يملك الروح والإحساس الذي يعبّر فيه عن المعنى والجمل اللحنية القوية ،فتجلت براعته في غنائه قصيدة ” همسة حائرة ” كلمات عزيز أباظة
يا منية النفس ما نفسي بناجية
ثم توقف الباحث عند قصيدة محمد سرور الصبان وتلحين وغناء عبد الوهاب ”
ياليل صمتك راحة للموجعين
وعبّر عبد الوهاب من خلالها عن ذوقه الرفيع باختياره اللحن المتناغم مع الصور اللحنية البلاغية المتناسبة مع المقطع الشعري لتتضح الصورة أكثر في غنائه قصيدة صفي الدين الحلي :
قالت :كحلت الجفون بالوسن
قلت ارتقاباً لطيفك الحسن
وأنهى الباحث المحاضرة برأيه الشخصي الذي توصل إليه من خلال مقارنة غير مباشرة بين عبد الوهاب والسنباطي ،ليفاجئ الجميع بأن السنباطي كان الأقدر على فهم خصائص وسمات تلحين القصيدة من عبد الوهاب الذي برع أكثر من السنباطي برأيه بالديالوج .
وتبقى محاضرة الباحث وضاح رجب مساحة للإصغاء والاستماع وإبداء الرأي بكنوز الموسيقا العربية ،ويبقى الرأي الأخير للحاضرين الذين تناسوا عبْر ساعتين من الزمن واقعهم وأعتقد كانوا مع إبداع عبد الوهاب أكثر ..
ملده شويكاني