ثقافة

فعالية “اليوم العالمي للغة العربية” تناغم لغة السينما مع الشعر والغناء والتشكيل الحروفي

تألقت في لغتنا العربية أساليب البلاغة والجرس الموسيقي للحرف العربي وجمالية المفردة التي صاغ منها الشعراء روائع الشعر العربي الحافلة بالغزل والبوح بمناجاة العشاق ، ولمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية  أقام المعهد العالي للغات فعالية غيرتقليدية وبعيدة عن النمطية، استمرت ساعات طويلة وتحوّلت إلى مهرجان شعري وغنائي تزامن مع ورشة عمل تطبيقية للتشكيل الحروفي ،وقد خيمت أجواء حالمة أثناء عرض الفيلم الروائي الطويل “طوق الحمامة المفقود” للمخرج التونسي الناصر خمير،وما يجمع هذه الفنون الحبّ بكل معانيه السامية وإظهار القيمة الفنية للحرف العربي.
الأمر اللافت حضور عدد من الأساتذة الجامعيين من مختلف الكليات ،وعدد كبير من المثقفين والطلاب ،وكان من بين الضيوف د.مهدي العش الأستاذ في إحدى الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية والمسؤول عن البرامج التربوية ،والذي أكد على ضرورة استخدام اللغة العربية في وسائل التواصل الاجتماعي.

العيون أصدق تعبيراً
بدأت الفعالية بمحاضرة الدكتورة منيرة فاعوررئيسة قسم اللغة العربية في المعهد والمحاضرة تحوّلت إلى مهرجان شعري، إذ دعت بعض الشعراء الشباب لإلقاء قصائدهم وخصصت مساحة للاستماع إلى مقتطفات من القصائد المغناة للسيدة (أم كلثوم ) ،ووصفت هذه الفعالية بأنها دعوة إلى المحبة لأننا في هذا الزمن نحن بحاجة إلى الخروج مما نحن فيه وأضافت :أردنا أن نقترب أكثر من الواقع فدخلنا إلى لغة الحب التي يفهمها ويريدها الجميع ،فكل واحد منّا متعلق بها بشكل ما ،والاحتفال بيوم اللغة العربية مناسبة لدعوة الشباب وإظهار مواهبهم وإبداعاتهم .وتمحورت محاضرتها المعنونة “بالوجه الآخر للغة” حول شرح هذا المصطلح الذي يعني الاتصال بلا كلمات ،أو اللغة بلا لغة أوالتواصل غير اللفظي ،وقد يتفوق هذا النوع من الاتصال على اللغة المنطوقة لاسيما في حال التعبير عما تكنه النفس من مشاعر، وقد تنطق العيون بكلام صادق عميق تعجز الكلمات عن بيانه، وربما تفصح ملامح الوجه عن غضب أقوى من الكلام ،ثم تابعت حديثها عن مظاهر الاتصال غير اللفظي ويتمثل بشقائق اللغة وتعني المهارات الصوتية المعبّرة عن الحزن أو الفرح ،والمظهر الخارجي الذي يعكس الظاهر حقيقة الباطن، وربما يظهر عكسه كقول المتنبي:

أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
أما المظهر الثالث فهو تعبيرات الوجه ،فالوجه مرآة عاكسة لمشاعر الإنسان ومكنوناته كقول سلّم الخاسر:
لاتسأل المرء عن خلائقه
في وجهه شاهد من الخبر
ثم انتقلت إلى أجمل مظهر من مظاهر اللغة غير اللفظية وأصدقها وأكثرها تعبيراً وهي لغة العيون التي تبوح بأسرار النفس ولواعج الهوى وتفتح مداخل الحنين وتكون نافذة القلوب ،فاستعرضت د. فاعور أجمل ماقيل في لغة العيون من روائع الشعر العربي ابتداءً بالشعر الجاهلي إلى الشعر المعاصر ،كقول زهير بن أبي سلمى:
وللعيون رسالات مرددة
تدري القلوب معانيها فتخفيها
واستمرت د.فاعور بتحليل لغة العيون إلى أن وصلت إلى قول نزار قباني الذي يختزل كل المعاني:
رأيت بعينيك نور ربي
وشاهدتُ نور اليقين
وشاهدتُ كل الصحابة والمرسلين
وشاهدتُ بالعين
رائحة الياسمين
وختمت الباحثة محاضرتها بأن العرب أهل بيان وبلاغة ولم يجدوا أفصح من لغة العيون وأقدر منها على كشف المكنون وبيان المستور.
وبعد المحاضرة التي استلهمت من الشعر العربي أرق المعاني ،قدم عدد من الشعراء مقتطفات من نتاجهم الإبداعي في مجال الشعر، فألقى الشاعر حبيب مخلوف عدة قصائد منها قصيدة الصراع بين السيف والقلم:
بين السيف والقلم
كل يقول بناء المجد من شيمي
وقدم الشاعر محمد حمود عدة قصائد تصف متاهات الحب كما في قصيدته إلى يسوعية:
ثوري فمثلك لايطيق خضوعا
ثم اخضعي ليس الهوى ممنوعا
كما شارك الشاعر يوسف القائد بقصيدة أبيات مطبعية:
الذنب أني ما كبتُ شعوري
وتركتُ أنفاسي تتم زفيري
وشارك الشاعر أسامة العلي بقصائد شعرية وبمقطع زجل يحكي عن ألم الفراق والغدرومستمد من حركات اللغة العربية:
حركات أفعالك صارت
في قلبي خناجر غدر
فتحت جروحي بفتحاتك
وكسرت ضلوعي بضماتك
وبعد الشعر شاركت الطالبة مانيا بربور بغناء قصيدة مضناك جفاه مرقده لأحمد شوقي وقصيدة أغداً ألقاك للتذكير بالقصائد المغناة.
قدر الروح أن تحبّ
وتشاركت لغة السينما مع الشعر والغناء ،ففي القسم الثاني من الفعالية عرض الفيلم الروائي الطويل “طوق الحمامة المفقود” للمخرج التونسي الناصر خمير المستوحى من كتاب طوق الحمامة لابن الحزم الأندلسي، وقد قدمت الدكتورة ميساء السيوفي عميد المعهد العالي للغات للفيلم ،وتحدثت عن أهميته وسبب اختيارها له ،وتطرقت إلى اللغة السينمائية الخاصة بالمخرج الذي يستحضر التراث من خلالها ،وهو فنان تشكيلي وشاعروقاص يرتجل الحكايات على خشبات المسارح وفي المدارس ،فوظّف قدراته في صناعة المشاهد وصياغة الحوارات ،فجاء الفيلم بوحدة مترابطة بين الشكل والمعنى، وتابعت حديثها عن الفيلم الذي يحكي عن الحلم الضائع لذلك أضاف المخرج كلمة مفقود: وتكمن أهمية الفيلم بأن أحداثه تجري في الأندلس في القرن الحادي عشر،ويحكي عن خطاط ويسرد متتاليات للقيمة الفنية للخطّ العربي ويرتبط بخطوط درامية مختلفة فهو مدخل للخطّ العربي لذلك أدرجته ضمن الفعالية ،وفي منحى آخر تحدثت عن  المعنى الصوفي والرمزي  للحمامة التي هي الروح، والطوق هو القدر وقدر الروح أن تحب ولايمكن إلا أن نحب.
وقبل عرض الفيلم ارتأت عميد المعهد د.السيوفي عرض مقابلة خاصة مع المخرج الناصرخميرغير مترجمة باللغتين الفرنسية والإنكليزية ،فترجمت محاورها الأساسية التي تعلقت بمضمون الفيلم ودور الصحراء في حياة العرب ورأيه بالثقافة العربية ليصل إلى نتيجة أن اللغة العربية هي التي توحد العرب في حين أن السياسة لاتوحدهم.

البحث عن حقيقة الحبّ
فيلم “طوق الحمامة المفقود” -1991-للناصر خميرأحد أفلام ثلاثيته الشهيرة الصحراء (الهائمون –طوق الحمامة المفقود-بابا عزيز )،التي حددت لغته السينمائية وأسلوبه الذي يدمج بين الواقع والخيال المتمثل بروح الأساطيروالحكايات الشعبية واعتماده بالدرجة الأولى على التراث القديم الذي نسج منه خطوطه الدرامية الحالمة كحكايات ألف ليلة وليلة ،وتميّز بموسيقا حالمة تأخذنا إلى عالم الأساطيرمعتمداً على إضاءة متناغمة بين الليل والنهارومشهدية بصرية قوية مابين امتدادات رمال الصحراء وفنّون الحضارة الإسلامية والعمارة الإسلامية، والغناء الديني الذي تجلى بصوت ساحر في أحد المشاهد في المسجد. ويمضي الفيلم وفق مسارين :آلام الفقد والبحث عن الحلم ومن ثمّ ضياع الحلم في النهاية والتشتت ليتزامن مع موت الأمير حاكم المدينة وهجوم المستضعفين واندلاع الحرائق .يكتنف الفيلم الكثير من الرموز والغرائب، ويتكرر السؤال عن حقيقة الحبّ ،ويردد البطل مقولة “أعزّك الله الحب أوله هزل وآخره جدّ”،ليكون الحمام الزاجل بطلاً يمثل الروح البشرية المتعطشة للحب والأمان ويمثل العلاقة التي تربط بين الشيخ وصديقه عيسى ناقلاً حركات الشطرنج بينهما إيماءة إلى التلاحم الديني.
تدور قصة الفيلم حول الفتى حسن الذي يتعلم رسم الحرف العربي من أستاذه الشيخ الذي ينسخ القرآن الكريم بخطه للأمير ،ويحاول حسن أن يجمع مفردات الحبّ التي تبلغ ستين مفردة ،ومن خلال الحوارات بين حسن والشيخ يتناول المخرج القيمة الفنية للخطّ العربي المرسوم بالحبر المعطر بالياسمين ،فهو-كما قال الشيخ_ وسيلة لإظهار البهاء الإلهي ووسيلة تربطنا بأول الخطاطين الخليفة علي رضي الله عنه ووسيلة تربط بين الظاهر والباطن .وتطرق الفيلم إلى جدلية الموت والحياة من خلال الحوار بين رسول الموت الرجل الذي يطرز كفن الأمير والطفل زين رسول المحبين الذي يوصل رسائلهم، ويتعمق الفيلم  بالحب الذي يشبه إصابة الجسد بالحمى، حيث العاطفة تتخطى المحتمل، ويبحث بمعنى الهيام ويعني اللحظة التي يستسلم فيها القلب لأسباب الإفصاح بسره، والشغف هو اللحظة التي يهدي فيها العاشق روحه إلى المحبوب ليصل إلى التوهان والاحتراق المحطة التي تفقد فيها الحياة كل معانيها لفراق المحبوب .ويشارك الطفل زين حسن برحلة البحث عن أبيه الجني كما تقول له أمه .الحادثة الفاصلة في الفيلم هي مشهد عثور زين على قطعة ورق من الكتب التي يحرقها أحد الرجال لأنها مسمومة وفيها سرّ أميرة سمرقند الفتاة الجميلة واسعة العينين التي تنظر إلى الرمانة الحمراء كما بدت في الصورة المرسومة .وتبدأ رحلة البحث فيسافر الشيخ إلى مكة لوضع المصحف الشريف في الكعبة الشريفة ويموت الحاكم ويهجم المستضعفون على المدينة ،وفي الطريق يعثر حسن على كتاب الحب الأعظم ويدخل البستان الممتلئ بسواقي المياه التي تجمعت من دموع أميرة سمرقند التي تبكي حبيبها المفقود الذي رأته في الحلم ،وفي المشاهد الأخيرة يلتقي حسن بالشاب الملثم عزيز ليكتشف أنه أميرة سمرقند ،لكن الحلم يضيع ويتلاشى حينما يفقد حسن عزيزفي البحر،ويضيع زين في الحرائق ،وفي المشهد الأخير نرى حسن وحيداً حزيناً يتذكر مقولة شيخه عن حرف الواو” هو الحرف المسافر”.

ورشة  للحرف العربي
وانتهت الفعالية بورشة عمل تطبيقية لرسم الحرف العربي بمشاركة الخطاط جلال المحارب وطلابه مع الحاضرين ،وتم رسم مجموعة أشعار إضافة إلى أقوال مأثورة.
العربية ووسائل التواصل
وعلى هامش الفعالية تحدثت البعث مع د.مهدي العش الأستاذ في جامعة ساينغل الحكومية الأمريكية والمسؤول عن البرامج التربوية ،ويرى أن أهمية اللغة العربية في التركيز عليها من خلال جذب الجيل الصاعد إليها باتباع طرق وأساليب جديدة في العملية التربوية ابتداءً من رياض الأطفال إلى أعلى الدرجات الأكاديمية ،والابتعاد عن الكتابة بالعامية في وسائل التواصل الاجتماعي واستخدام اللغة العربية لغة تواصل، والتصدي لكل من يحاول إقصاء اللغة العربية.
مِلده شويكاني