في ندوة نقد وإبداع.. د. نذير العظمة: علامة فارقة في الساحة الثقافية العربية والعالمية
ليست هي المرة الأولى التي يتمّ فيها تناول ما اعتاد أن ينجزه د. نذير العظمة، وهو الشاعر والناقد والمسرحيّ والباحث والمفكر والمناضل عبر مشروعه الثقافيّ المتكامل، الذي ابتدأ من مجلة “شعر” وانتهى بالمشروع الشعريّ والمسرحيّ والفكريّ الذي قدمه، لذلك كان من الطبيعي أن تحظى مؤلفاته (أكثر من 50 كتاباً) بالقراءة النقدية، خاصة وأنها مؤلفات قابلة للقراءة في كل زمان ومكان.. من هنا كان كتاباه “سفر العنقاء” و”التغريب والتأصيل في الشعر العربيّ الحديث.. دراسة نقدية للشعر والميثيولوجيا” موضع دراسة نقدية قدمها مؤخراً د.عاطف البطرس ود.غسان غنيم في مركز ثقافي المزة.
التغريب والتأصيل
نوّه د.عاطف البطرس بدايةً إلى أن كتاب “التغريب والتأصيل في الشعر العربي الحديث” كان قد صدر عام 1999 عن وزارة الثقافة وهو يضمّ مجموعة من المقالات التي كان د.العظمة قد كتبها ليجمعها في هذا الكتاب ضمن نسق وخطّ فكريّ يتعلق بالأسطورة، مشيراً إلى أنه كان قد قرأ هذا الكتاب منذ نحو عشر سنوات وقد اختاره اليوم ليكون موضع دراسة ونقد لأسباب كثيرة تأتي في مقدمتها القيمة المعرفية الذهنية له ولأهمية الأفكار المطروحة فيه والتي تبدو صالحة للنقاش اليوم في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها الوطن حيث ما أحوجنا إلى الانفتاح.
يقوم الكتاب في مقدمته على مرجعية فكرية منفتحة على الآخر، موضحاً البطرس أن الآخر هنا ليس الغرب فقط، وإنما كل ما هو إنسانيّ، فيؤكد بذلك العظمة في الكتاب على التعددية والتنوع، طارحاً مسألة الأصالة والمعاصَرة والتغريب بمنهجية متقدمة وبجهد ملحوظ وبحث دؤوب، مبيناً البطرس أن الكتاب تناول مفهوم الأسطورة عبر مدرسة جماعتَي أبولو وديوان وصولاً إلى مرحلة المدرسة التموزية ومجلة “شعر” حيث يوضح أن جماعة أبولو أخذت الجانب اليوناني والروماني الغربي من الأسطورة لتأخذ جماعة ديوان الجانب المشرقيّ، مشيراً أننا اليوم بحاجة إلى تركيبة جديدة تجمع بين هاتين المدرستين، ويرى العظمة في كتابه –كما يشير البطرس- أن مجلة “شعر” والمدرسة التموزية (بدر شاكر السياب وأنسي الحاج) استطاعتا أن توفقا إلى حد كبير بين المفهومين، ولذلك يرى البطرس أن أهمية هذا الكتاب تكمن في تعميم أفكاره من الأسطورة إلى الفكر بشكل عام وإلى الثقافة ليصل صنّاعها إلى الحضارة بمفهومها الواسع.
الفينيق من قلب التراث السوريّ
في حين بيّن د.غسان غنيم الذي تناول بالدراسة كتاب د.العظمة “سفر العنقاء” أن هذا الكتاب سفر من أسفار الكتابة الأكاديمية الرصينة والعميقة، ومن يرى المرجعيات التي عاد إليها د.العظمة لا بدّ وأن يجلّ هذا الكتاب وصاحبه ليفخر الأدب العربي أنه قدم شعراً بهذا العمق والأكاديمية والرصانة، مبيناً أن د.العظمة انغمس في تراث أمته، عبر حفريات معرفية قادته إلى الأسطورة السورية، تليها الحكايات الشعبية التي أنتجتها مخيلة إنسان المنطقة بما تشكله من تلخيص لفلسفة إنسان المنطقة وتصوراته، مبيناً غنيم أن العظمة أكد أن اهتمامه بالميثيولوجيا وبعلم الأساطير يعود إلى حقبة مبكرة في حياته، وهي من اهتمامات جيله، وقد تجلى هذا الاهتمام في تجربته الإبداعية والعلمية على حد سواء، فركّز على تيمات الشهادة من خلال أساطير الخصب في شعره، ومسرحه: “ابن الأرض- جسر الموتى- حبيبتي والجارة العجوز- الخضر ومدينة الحجر- القصائد المفردة- في نواميس تموز”، ومسرحية “طائر السمرمر”، مشيراً، «د. غنيم»، إلى أن د. العظمة قدم هواجسه، وأسئلته حول موضوع ضمّه في كتاب مهم سمّاه: “سفر العنقاء”، ليقدم رؤيته التي تتعلق بالأسطورة، والميثيولوجيا من خلال أسطورة شرقية غربية انبعثت من الصحراء العربية، ثم انتقلت إلى الحواضر العربية، موضحاً، «د. العظمة»، أن الفينيق طائر أسطوري من قلب التراث السوري، يرمز إلى الانبعاث، والتجدد، والدراسة تتناول أبواباً عدة، منها ما يتعلق بالمنهج، وتحولات الأسطورة، والإنسان، مبيناً علاقة الأسطورة بالاستعارة، والكناية، حيث يرى أن الاستعارة، والكناية تشكلان حالة تزيينية تتعلق باللغة، بينما تشكل الأسطورة طاقة من الخبرة، والأبعاد الإنسانية التي اختزلتها الأسطورة، وقد علّل د. العظمة –كما يشير غنيم- عدم اهتمام الشعراء العرب والنقاد قديماً إلا بالجانب الاستعاري، أو الكنائي من هذه الأسطورة، لأن النقاد العرب اهتموا باللغة، والبلاغة، واستبعدوا الأسطورة، لأنهم رأوا فيها انبعاثاً لأفكار وثنية، فاستبعدها الشعراء، واكتفوا بالموروث الذي لا يخالف الأفكار التي شاعت في مجتمعهم عن الأساطير.
بين الفينيق والعنقاء
وعمل د. العظمة في دراسة أسطورة العنقاء –كما يوضح د. غنيم- على دراسة الشروط التاريخية، والثقافية لمحاولة الفصل بين أسطورة الفينيق الأوروبية، كما أوردها أبو التاريخ هيرودوت، وأسطورة العنقاء من خلال شفرتَي اللغة، والثقافة، ورأى العظمة أن العنقاء فينيق آخر في شروط تاريخية، ثقافية أخرى، وهي نسق لا يمكن أن يكون فهمه فهماً علمياً بمعزل عن حركة التاريخ، وفي هذا الفصل يقدم العظمة دراسة علمية أكاديمية رصينة لدراسة الأسطورة، تعتمد الحفريات الثقافية في جذور هذه الأسطورة، وتفرعاتها في أساطير تشترك معها، ولكنها تشكلت في سياقات تاريخية، وحضارية لا تنفصل عن حركة التاريخ، معتمداً على مناهج الأدب المقارن بما يقدمه من إمكانيات عديدة لدراسة مثل هذه الموضوعات المعقدة، ثم يدرس العظمة في باب آخر –كما يوضح د. غنيم- التداخل بين أسطورة العنقاء، وأساطير أخرى اقتربت، أو شابهت، أو انطبقت مع أسطورة العنقاء، باحثاً عن أصل الأسطورة، والأشكال المتقاربة معها في أقدم الحضارات الإنسانية كالصين، والهند، وبلاد فارس، والصحراء العربية، ثم الإغريق، والرومان، وأوروبا، مع فهم الدلالات المتنوعة لتجليات الأسطورة، معرّجاً «د. العظمة» على البدائل التي حلّت محل تسمية العنقاء في الحضارات التي تبنت هذه الأسطورة، كما يبين د. غنيم في دراسته كيف بيّن العظمة تعامل المبدعين العرب من الشعراء، والأدباء مع أسطورة العنقاء، وقد وجد أنهم اتبعوا طريقتين: الأولى تعتمد على الوصف، والتصوير، والثانية تقوم على الاستعمال الأكثر فنية من حيث جعل الأسطورة تشكل لبنة عضوية في جسد القصيدة، وبناء القصيدة على رؤية الموت، والانبعاث الحضاري، اعتماداً على تقنية اليوت، فوجد الشعراء في أسطورة العنقاء كنزهم الثمين القادر على التعبير عن كل رؤاهم في الموت، والانبعاث الحضاري.
ويختم د. غنيم، مؤكداً أن “سفر العنقاء” سفر حقيقي، درس بنية هذه الأسطورة التي تنطوي على فكرتَي الحياة والموت، النار والرماد، الحضور والغياب، مبيناً فاعليتها في الأدب، واللغة، والدين، والتاريخ، والتصوّف، مع دراسة للتداخل بين العنقاء الأصل، والعنقاء، والفينيق، بالإضافة إلى آليات تسرّب هذه الأسطورة إلى حضارات أخرى، موضحاً، «د. غنيم»، أن الكتاب المبدع يدل على مدى تعمّق صاحبه في الحقل الثقافي باستجلاء كل ما يمكن أن يتعلق بهذه الأسطورة، ليدل على مدى حرص مبدعه على دراسة كل ما هو حضاري، ومعرفي قائم على أسس أكاديمية دقيقة، وبحس إبداعي مرهف.
أمينة عباس