ثقافة

أقفال ونوافذ

هناك خلف جداريات الزمن المعلن من عمرنا وُجدنا.. وعند شرفات الوقت الحاضر هنا والغائب هناك بقينا.. نتجسس على الأيام بالعين نفسها، لا رمشة هدب تغيرنا ولا حدثاً يهز زجاج نوافذنا، نتطلع فقط كيف تمضي اللحظات مسرعةً هاربةً متسكعةً فوق أرصفة أحلامنا، نرمقها بالعين ذاتها التي بقيت تنظر من خلف تلك النوافذ الجامدة، والتي خيمت بستائر من غبار اليأس والوجع والكتمان عن الحقيقة برغبة التستر والكتمان، لتتآلف مع مسيرة ليالٍ تمضي ونهاراتٍ تعود بمثلها، كمثل تلك القدرية التي تجسدت كحلمٍ جميلٍ بقي في الخيال وهما بعيداً عن تلك النوافذ المفروضة بتاريخ يكرر ذاته علينا، ليثبت أننا ضعفاء مأسورين لمكبلات وعوائق تعيق تنامينا وتعمل بكل ما فيها على إعادة رتم الساعات نفسها، والتي لها أن تزهق روح أمل قد ينبئ بولادة صباحاتٍ ومساءاتٍ مثيرة تنقلنا معها إلى عوالمها بكل انفتاحاتها وسلامها وإعمار إنسانها، والتي مازلت أنتظر عودتها إلى منافذنا يوماً، لتشرق فيها شمس التجدد وتهمس لمرايا الروح بفيروزيات الحنين، وتنذر بغروب أحزان مضت، وتبشِّر بزوال عوالم الأنين.
غريبةٌ  تكون ازدواجية الكلمات فينا حين تلفظ ، وتناقضات الأفعال حين تفعل  من وراء كراساتنا واستحواذ كراسينا وسيطرة ترهاتنا؟. كيف لنوافذ خلقت لكي تفتح، كيف تغدو منافذ وهي مقفلة؟. وكيف لصانع قفلٍ في نافذة أن يفرح وهو يمنع بقفله هذا مروراً لأملٍ ما وحلمٍ ما، قد يحمل بين ذراعيه قصاصة لون وحكايات من فرح ووعود من ضوء؟.
لِمَ يفعل هذا؟ أليقينه وتخوفه من حدثٍ قد يحدث ويودي بمنصبه أو يعمل على سقوط ريشة سطوته وانهيار لمنظومة فساده وعنجهيته، أو قد يكون مؤشرا لبداية جديدة تحمل في طياتها بذور التغير التي لا تناسبه نسيماتها، فيما إذا نفذت هذه الآمال من بين مصراعي تلك النوافذ ودغدغت ناموسه وحركت موجات الحق والمساواة بلا شخصنة، محتضناً لمنصب أو متوارثاً لفكر أو مشجعاً لمنهج قد يودي إلى انغلاق أجيال وأكل حقوق الناس، بفلسفة روح القطيع التي تقتل الحمل وتنمي وحشنة الذئاب في التهام الزرع الأخضر واليابس بنظرة له من خلف نافذة استملكها مصادفة، أو في التتابعية المعهودة لمنظومة الفساد التي تخدم الجالسين وراء نوافذهم هناك، حتى ظن هذا الشخص  نفسه أنه مالكها (أي النوافذ) هي وأطلالها وشخوصاتها وحتى مجرياتها؟.
لا أعلم لكنني أتساءل: ما الذي يضرُّ به ويضيره لو بقيت هذه النوافذ هكذا مفتوحةً حرة؟.
وأقول: غريبون أيضا أولئك الذين أغلقوا عمراً نوافذهم، أما تعفنت حكاياتهم؟ أما انتهى أكسجين أقوالهم؟.
نعم لقد جفت كلماتهم، وتصلبت شرايين قضاياهم التي احتبسوها وراء زجاج قسوتهم، وقضبان مصالحهم، ظناً منهم أنهم يستطيعون بنوافذهم تلك وأقفالها أن يمنعوا تسرب يد الشمس إلى تواريخ أحداثهم، وبمقدورهم أن يعزلوا الأيام إلى برد الصمت، لكن كإيماني بشيء ما أقول: مهما أُغْلِقْتِ أيتها النوافذ بسلاسل من الجمود وفساد للعهود، سيأتي الربيع لتورد حدائق الحقائق وتتكسر تلك القيود. كذلك يجلسون خلف نوافذ أحقادهم، في بيوت مكونة من رمال أوهامهم، يرمون الآخرين بحجارة سمومهم، ألا يدركون أنهم غدوا هم أنفسهم نوافذَ لا أكثر، وسيحين زمنٌ لترمى عليهم ذات الحجارة وتنتهي معهم سطوة العزل والحدود.
وأيضا لا تزدهر خفايا ذاكرةٍ خلف نافذة موصدة، اسمحوا لها أن تفتح لتمر نسمات الأرواح عليها فتلاقي الأجساد الميتة وتشعل فيها الشغف للعيش والوجود.
وقول مني إليكم.. من رغبة عاشقة عن الشهوة الجارفة نحو الحياة، شرعوا نوافذ القلب لهمسات الحب، لمرور النور والنار عليه فتورق معه كل اللحظات، ويزهر العمر ويحلو الغد وترقص للمسامع كل الأغنيات.. اكسروا الأقفال، هاتوا المفاتيح، رصعوا الحلول، شيدوا المنافذ، وافتحوا نوافذ السلام بناء يمد الأرض استمرارا ويحيي برتمه من جديد كيان البلاد.
رشا الصالح