بعد تسلّمه منصب مدير الهيئة العامّة السوريّة للكتاب د. جهاد بكفلوني:الأولوية اليوم لتأمين الكتاب الجيد.. والعقل العربيّ السوريّ مازال بألفِ خير
على الرغم من الظروف الصعبة التي تمر بها سورية، وعلى الرغم من روح التشاؤم التي تكاد تسيطر على العاملين في الشأن الثقافي، يرفض د.جهاد بكفلوني مدير الهيئة العامة السورية للكتاب ذلك التشاؤم، ويؤكد في حديثه لـ “البعث” بروحه المتفائلة أنه ينظر إلى جريان تدفّق نهر التأليف الذي يصبّ في مديرية التأليف نظر المطمئنّ إلى أنّ العقلّ العربيَّ السوريَّ مازال بألفِ خير، وسيبقى كذلك، موضحاً أنه ربّما رانَ على جَفْنِ هذا السّيفِ الهُندوانيّ ما يمكنُ أن نخالَهُ صدأً؛ لكنّ هذا الصّدأَ كان سحابة صيفٍ عابرةً سُرْعانَ ما ولّتِ الأدبارَ، وعادَ العقلُ إلى صفائِهِ ورفَّ الرّونقُ مزهوّاً بأصالةِ هذا السيفِ العريقِ الذي زادتهُ المحنةُ القاسيةُ رونقاً ومضاءً.
خير جليس في الأنام كتاب
ويبين د.بكفلوني أن مديريّة التأليف والمديريّات الأخرى في الهيئة العامّة السوريّة للكتاب تزدحمُ بمخطوطات جمّةٍ تشيرُ إلى أنّ المبدعَ السوريَّ قد ألقى الأزمةَ وراءَ ظهرِهِ وعاد إلى يَنبوعه الصّافي ليسكبَ لنا من ذلك الشّراب الحضاريّ المعتّق ويملأ الكأسَ حتّى الجَمام، وبالتالي فإن الأولويّة التي يُعْمَلُ في سبيل إنجاحِها في المديريّات كافّةً فهي لتأمين الكتاب الجيّد، وإعادته إلى الحِضْن الدّافئ الذي اعتادَ الاستلقاءَ عليه ويعني به القارئ، لذلك تعمل دون كللٍ أو مللٍ وبتوجيهٍ من الأستاذ عصام خليل وزير الثّقافة لتأمين الكتاب الذي يترجمُ ما قالَهُ جّدنا المتنبيّ:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرْجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الأَنامِ كتابُ
ويتمنّى د.بكفلوني صادقاً أن يعودَ الكتاب تلك الخميلةَ الوارفةَ التي نأوي إلى ظلالها الممدودة، وسادةً تهدهدُ أمانينا وأحلامَنا، لأنَ الغزو الثقافيَّ الذي يقودُهُ الغربُ يركّزُ على نزعِ الكتابِ من صدور أبناءِ الأمّة العربيّة، لتنكفئَ على ذاتِها وتنسحِب إلى كهفِ العُزلة فلا تدري ماذا يُراد بها وأين يُسار.
أبواب الهيئة مفتوحة لنتاج المبدعين
ولإنتاج الكتاب المقروء، لا المشاهَد أو المقتَنى، يؤكد د.بكفلوني أن أبواب الهيئةُ وقلبَها مفتوحة لاستقبال نتاج المبدعين، وكلّما تنوّعت مشاربُهم ومذاهبُهم الفكريّة كان عطرُ الورود التي يجودون بها أزكى أرجاً وأندى نفْحاً، ومَرْحباً بالنتاج الخلاّق مادام الجميعُ يلتقون على محبّة الوطن والحرص عليه أرضاً وشعْباً، أما الصّعوبة إن ظهرتْ فمردّها برأيه إلى عواملَ تتعلّقُ بالرّصيد الفكريّ الذي يغذّي مصرِف الهيئة، ويعني به ما ينسابُ إليها من مؤلَّفات؛ فقد يطغى لونٌ على حسابِ الألوان الفكريّة الأخرى، وقد يرد عدد كبيرٌ من المجموعات الشعريّة ويقلُّ في الوقت نفْسِهِ عددُ المخطوطات التي تتناول الرواية، أو من هذا المطبِّ إلى أصحاب رؤوس الأموال الفكريّة المؤلِّفين، ولذلك طلب إليهم بالمحبّةِ أن تتنوّع الأزهارُ والورود التي يقدّمونها إلى وطنهم المحبوب، وأُثلِج الصّدْرُ عندما استجابوا مشكورين لهذه الدعوة، وصارَ التنوّع سمةً من سمات الكتب الصّادرة عن الهيئة، مشيراً -د.بكفلوني- إلى أن الهيئة لا تضيق صدراً بالنّقدِ مادام هدفُهُ منصبّاً على انتقال عملها من حسنٍ إلى أحسن، ومادام النّقدْ نابعاً من الحِرص على أن يكون عطاؤها أعلى قيمةً، وقد التفتت إدارة الهيئة إلى التعامُل مع مسألة الوقت الطويل الذي كانت تستغرقه المطبوعات في عملية الطباعة لكي لا تطولَ، مؤكداً للمؤلِّفين أن الانتظار من الآن فصاعداً لن يطولَ، موضحاً أن الهيئة بادرت إلى الاتّصال بالسادة القرّاء وحثّتهم على إنجاز التقييم الذي يُعطى للمخطوطة وعدم التمهّل في تقديم هذا التقييم لأن المؤلِّف –وهو على حقّ- يتمثّل قولُ إبراهيم ناجي: والثّواني جمراتٌ في دمي، في حين أن الجانب الفنيّ المتعلّق بالكتاب ويعني به شكله الذي وجِّهَت له انتقادات كثيرة فيبيّن أنّ الهيئة تملك مطبعة جيّدة وعمّالاً مهرةً يستطيعون تقديم الكتاب بصورةٍ تشدُّ القارئ وتستهويه، والانصباب يكون لصالح الكتاب الأنيق شكلاً ومضموناً مظهراً ومَخْبراً، وهذا الانصباب منبَعهُ جَهْدٌ يبذله العاملونَ في المطبعة لأنهم يُسرّون عندما يرونَ صنعَ أيديهم وقد احتكَّ عقل ورفوف مكتبة القارئ.
الهيئة حريصة على ما يُقدَّم إليها
وحول آلية تعامل المديرية مع الكتّاب والأسس والمعايير التي تأخذها بعين الاعتبار في هذا المجال للموافقة على أي مخطوط يُقدَّم لها يؤكد بكفلوني لأصحاب المخطوطات أن الهيئة حريصة على ما يُقدَّم إليها حِرْصاً يوازي حرصَهُ إن لم يتقدّم عليه، هناك مخطوط جيّد يحصلُ على تقييم إيجابيّ من قبل قرّاء أكفّاء قادرين بخبرتهم وطولِ باعِهم على تمييز الغثِّ من السّمين، هناك مؤلِّف يعرَق في وضعِ كتابه لكنّه لا يدَعُ القارئَ يشمُّ رائحةَ عَرَقه، فمثلُ هذا المؤلِّف يقدّم مخطوطهُ ولا ينتظر إلاّ أمداً قصيراً ليراه وقد خرج من المطبعة كتاباً يتمنّى أن يتهافت عليه القرّاء، مشيراً د.بكفلوني إلى أن مقيّم المخطوط يضع ملاحظات يُطلَب إلى المؤلِّف الأخذ بها، وإذا فعل عادَ مخطوطُهُ ليشقَّ طريقَهُ إلى المطبعة، أما المعايير المستنَدُ إليها في التقييم فيأتي في المقدمة سلامةُ اللغة وخلوُّها من الأخطاء بأنواعها المختلفة وجِدّة الموضوع الذي يتناوله المؤلّف وابتعادُهُ عن اللغة التخصصيّة التي لا يفهمها إلاّ أهل الاختصاص وتناولُهُ موضوعاً يخصُّ الشريحة الكبرى من القرّاء والمهتمّين، وهذه المعايير والضّوابط برأي د.بكفلوني كفيلة إذا طُبِّقتْ بمنح الكتاب الجيّد فقط تأشيرة الدّخول إلى قلب القارئ وعقله ووجدانه بعد خروج المخطوط من المطبعة كتاباً.
ويختم د.بكفلوني حديثه منوهاً إلى أن الهيئة تحرصُ على تذليل الصّعاب التي لا ترقى لتأخذ شكل تحدٍّ، والتحدّي الهَمُّ جميل متجدّد لأنّ الارتقاء في معارجِ الكمال رحلةٌ تطولُ في أبعاد الزمان والمكان، مبيناً أن وطننا جميلٌ يستحقُّ منّا أن نردَّ له نزْراً يسيراً من الدَّيْنِ الكبير الذي يطوّق به أعناقَنا، وبالتالي لن نكونَ قادرين على ردِّ الدّينِ كلِّه وحسب الجميع ردَّ جزء منه بالإخلاص في العمل والتّركيز على خدمة الثّقافة التي هي غذاءُ الرّوح، فالرّوح تظمأ وتجوعُ كما يظمأ الجسد ويجوع، والثّقافة رسالةٌ حملَها المثقّف الشّريف ليؤدّيها بكلّ أمانةٍ، ليكتب اسمَهُ بمداد النّور في سجلّ وطن الشموخ والحضارة سورية.
أمينة عباس