على بوابة مصافحتنا الاقتصادية الجديدة مع الخارج.. هواجس قد تكون مشروعة حول كفاءة فرق التفاوض التجاري.. قبل “أن ننفخ في اللبن”!
لم يعد من الحكمة عدم الإنصات لتساؤلات المستفسرين عن كفاءة المفاوض التجاري السوري في أروقة صياغة وضبط آليات التعاطي التجاري مع العالم الخارجي.
فثمّة أخطاء اعترف بها تنفيذيونا صراحة على مستوى التفاصيل التي تنطوي عليها اتفاقات تجارية كبرى مع أطراف مختلفة، وكانت نتائج الخلل الحاصل عبارة عن أرقام على شكل خسائر مباشرة، وأخرى على شكل فوات أرباح وفرص.. والمحصلة كنّا أمام متوالية خسائر ما دامت مفاعيل هذه الاتفاقيات قائمة.
الآن الحكومة ماضية في توجهها وفي توقيع اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع دول صديقة ودول من مجموعة بريكس واتحاد دول كازاخستان وبيلاروسيا والصين ومنظمة شنغهاي وغيرها من البلدان والمفاوضات التجارية (ستحتدم) لانتزاع مصالح تأخرنا في تحقيقها.
لنعود هنا للتساؤل عن كفاءة فرق التفاوض التي حضّرناها للخوض في غمار الاتجاهات والمسارات التجارية الجديدة المزمعة والتي تربعت على أجندة نيات معاودة مصافحتنا مع الآخر، ولاسيما أن المعطيات السياسية تعدنا بآفاق جديدة من العلاقات ربما لا تقلّ أهمية عن باقي جزئيات مشروع إعادة الإعمار، لأن استحقاقات إعمار قنوات التجارة الخارجية لا تقلّ أهمية عن إعمار البنى التحتية.أرشيف محرج
ولعلّه من المفيد أن نسوق معلومة لمن لم يطلع على سفر ضوابط علاقاتنا الاقتصادية مع الخارج، إذ ينظم العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين سورية وبلدان العالم المختلفة ما يزيد عن 90 اتفاقية متعددة الأطراف، منها منطقة التجارة الحرة العربية والتي دخلت حيّز التنفيذ مع بداية العام 2005 وكانت سورية –حسب مصادر وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية- أول المنفّذين والملتزمين بها وأول الخاسرين أيضاً من تطبيقها، لأن معظم البلدان العربية لم تلتزم بكثير من البنود والشروط الواردة فيها، ما انعكس سلباً على مستوى الأداء والنتائج، وتشير مصادر في الوزارة -لم تشأ ذكر اسمها لما قد تنطوي عليه إشاراتها من انتقادات لمكنة أداء الوزارة على مستوى ضبط إيقاع العلاقة مع الخارج– إلى اتفاقيات التجارة الحرة بين سورية وبعض البلدان العربية لتسريع عمليات التبادل التجاري فيما بينها، والتي لم تأخذ شكلها الطبيعي لخدمة ومصلحة أطراف الاتفاقية وذلك لاختلاف الأنظمة والتوجهات السياسية التي تحكمها والتي غالباً ما تكون متنافرة، وهذا بدوره يترك آثاره السلبية على الأداء المرجو من تطبيق الاتفاقيات الثنائية.
إضافة إلى ذلك -تتابع المصادر- اتفاقيات تتعلّق بالتشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار بين سورية والدول العربية والأجنبية، ولكن الطابع الغالب في هذا المجال التوقيع لمصلحة البلدان العربية، حيث وقّعت سورية العديد من الاتفاقيات وبروتوكولات التعاون في المجالات المذكورة، ولكن من دون تفعيل لتحقيق الاستفادة المطلوبة لعدم وجود إستراتيجية واضحة وآلية تنفيذ تضمن استثمارها منذ سنوات مضت.
البعض حمّل المفاوض مسؤولية ما لحق من ضرر بالاقتصاد، وآخرون رأوا أن التسرّع هو الذي أدخل التنفيذ في متاهات لا مخرج منها وعدم التزام الأطراف الأخرى ببنود الاتفاقيات، إضافة إلى عدم وضوحها. في حين رأى البعض الآخر أن اللوم لا يقع على طرف واحد إنما على كلا الطرفين رغم أن الخسارة كانت لطرفنا، لكن محلّلين يرون أن اللوم يقع على من يفاوض ويوقع الاتفاقية.
وتنطلق وجهة النظر هذه من أن الفريق الاقتصادي والفني الذي يعدّ للاتفاقيات يجب أن يطلع على قوانين الدول الأخرى ويدرسها حتى لا تؤدي عند التطبيق إلى الحدّ من الصادرات السورية ثم خسارتنا لهذه الأسواق. والجميع يعلم أننا نعدل قوانيننا لمصلحة الاتفاقيات على حين الآخرون يعدلون الاتفاقيات لمصلحة القوانين.
وفي عودة إلى الدفاتر القديمة، يشير بعض الأكاديميين إلى أن الاتفاقية السورية التركية مثلاً كانت مخالفة، ومن المخالفات أنها كانت تقدم دعماً للتصدير يتراوح بين 15 إلى 18 بالمئة كما تم استثناء تركيا من القانون 24 المتعلق بالصناعات الناشئة في سورية، ومن خلال ذلك استطاعت السلع والبضائع التركية أن تدخل السوق السورية من خلال دعم حكومي تركي مباشر لكل مُصدّر تركي من خلال تقديم دعم له يصل أحياناً إلى 18 بالمئة، على حين الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع التركية القادمة إلى سورية وصل الحد الأعظمي لها إلى 12 بالمئة، وهو إجراء يخالف كل الأنظمة الاقتصادية والتجارية العالمية، كما أن هذا الاستثناء شكّل ضربة موجعة للصناعة السورية الناشئة، نظراً لتطور الصناعة التركية، وعدم قدرة الصناعة المحلية على منافستها، إضافة إلى الالتفاف التركي على روح ونص الاتفاقية.
استدراك
بدأت حكومتنا منذ فترة تتعدى العامين بإعادة النظر بالاتفاقيات الاقتصادية التي وقعتها سورية مع بعض الدول، حفاظاً على المصلحة وتحقيقاً للعدالة الاقتصادية، ليتم المضي في توقيع اتفاقيات إطارية في ضوء التوجه شرقاً ولمصلحة دفع الاقتصاد الوطني نحو الأمام.
وهناك من ذهب في خوفه من أن يكون توقيع بعض الاتفاقيات متسرعاً وغير مدروس، وبالتالي تكون له تبعات اقتصادية سلبية، إلى جانب مخاوف من أن توقعنا الأزمة الراهنة تحت ضغط الظرف والحاجة بأخطاء ارتكبناها سابقاً عند توقيع اتفاقيات تعاون ثنائي أو تجارة حرة مع عدد من الدول. إلّا أن بعض الخبراء والأكاديميين يدحضون مبررات هكذا مخاوف على اعتبار أن ثمّة معايير عالمية واضحة من شأنها ضبط معايير إدارة التفاوض والتي تقتضي أن يكون هناك نقاش وجولات متعددة، وأن يوضع سقف معيّن يُتحرك ضمنه، علماً أن العنصر الأهم في العملية التفاوضية هو المفاوض، ولا بد أن يمتلك خصائص تساعده على القيام بعقد أي اتفاقية أو صفقة تجارية. ومن أبرز المهارات المطلوبة للمفاوض التجاري القدرة على الرد السريع وإمكانية التفكير السريع والإلمام الكامل بأكثر المسائل التجارية تعقيداً.
ويشير أصحاب هذه الرؤية الواضحة إلى أنه لا قيمة لأي اتفاق من الناحية القانونية إذا لم يتم توقيعه في شكل اتفاقية موقعة وملزمة للطرفين المتفاوضين، ويجب الاهتمام بأن تكون الاتفاقية شاملة وتفصيلية تحتوي على كل الجوانب وتُراعى فيها اعتبارات الشكل والمضمون، ومن حيث جودة وصحة ودقة اختيار الألفاظ والتعبيرات، وألا تنشأ أي عقبات أثناء التنفيذ الفعلي للاتفاق.
ولايفوت أصحاب هذه النصائح التأكيد على ضرورة الاستفادة من الاتفاقيات السابقة وتقييمها ومعايرة السلبيات والإيجابيات لكي نتلافى الوقوع مجدداً في أخطاء مماثلة، مؤكدين أنه ويجب أن يكون المفاوض السوري ذو خبرة ومن ذوي الاختصاص، لكن تحت ظرف الحاجة يمكن تصنيف الاتفاقيات إلى نوعين منها اتفاقيات طارئة ومنها إستراتيجية طويلة الأمد، وفي الحالة الأولى يمكن أن يقدّم المفاوض بعض التنازلات من أجل إنعاش الاقتصاد، أما الاتفاقيات الاستراتيجية فيجب أن تدرس بدقة فائقة ويتم التفاوض بمهارة لأن لهذا النوع تبعات مالية وقانونية وغيرها.
لذلك يجب تحديد السلع الضرورية في حياة المواطن كالنفط والطحين وغيرها، ويمكن للمفاوض التجاري أن يقدم بعض التنازلات بشرط نوع السلعة والسعر والسرعة في عقد التسليم والاتفاق على السعر.
وباتجاه أكثر تفصيلاً، يرى هؤلاء الخبراء أن عملية المقايضة أفضل من دفع السعر في الظروف الحالية ويمكن توقيع اتفاقيات استيراد وتصدير، ويمكن أن تكون هناك خسارة من ناحية القيمة المضافة أو غيرها، لكن هناك حالات اضطرارية ويجب أن تراعى هنا إدارة الأولويات.
دروس
بين إهمال التوجّه إلى دول كثيرة يمكن أن تكون سوقاً خصبة لترويج منتجاتنا وكان من الممكن أن تكون أفضل من الاتحاد الأوروبي كإفريقيا، وإعادة إحياء فكرة التوجه شرقاً، تستحضر الذاكرة أخطاء القرارات الاقتصادية والاتفاقيات المبنية على العواطف، ويبرز الخوف ممن يفاوض ويوقع على اعتبار أن المشكلة ليست في الاتفاقيات بحد ذاتها إنما في الجانب التنفيذي الذي لم يفرض في الاتفاقيات الموقعة قيوداً أو حدوداً سواء أكانت كمية أو قيمية حسب المختصين.
لكن أوساطاً حكومية وبالتحديد في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية كانت تطمئن من يسأل دوماً بأنها لا ترى مبرراً لأي توجس من ناحية الكفاءة والاشتراطات الحكومية، وكان التأكيد دائماً على أن الاتفاقية الشاملة مع هذه الدول تضمن مصلحة الجانب السوري بشكل كبير ولا داعي للخوف بل على العكس هناك من يقول إن هذه الخطوة أتت متأخرة.
وأحدث التصريحات الراشحة من وزارة الاقتصاد بهذا الشأن جاءت في قالب تبريري، إذ أشارت إلى أن الهياكل الإنتاجية والعادات الاستهلاكية متشابهة مع هذه الدول، وهذه تلميحات على شكل إجابات مسبقة على من يتساءل عن عدم فعالية آليات التفاوض مع العالم الاقتصادي الخارجي، وتشير تصريحات المعنيين في الوزارة –استدراكاً– إلى أنه تم إعداد قوائم تتضمن احتياجات السوق من السلع المنتجة في هذه الدول وما يمكن أن تصدره سورية إليها.
ويعتدّ مسؤولو وزارة الاقتصاد ببرامج التوجه شرقاً، لافتين إلى أنه علينا النظر لهذا الموضوع بمعناه الاقتصادي والسياسي الذي ينعكس إيجاباً على الاقتصاد السوري ليس الجغرافي البحت، ومع القناعة بعدم وجود قرار اقتصادي صحيح وقرار خاطئ مئة بالمئة، فإن القضية يجب أن تتراوح بين الصح والخطأ ولكن يجب أن تكون المصلحة السورية هي البوصلة الحقيقية لهذا التوجه عند كل خطوة أو نشاط نقوم به.
وترى وجهة النظر الحكومية في موضوع التوجه شرقاً أن الأولوية في الظرف الراهن هي للقدرة على إيجاد سلع قادرة على المنافسة سواء أكانت زراعية مثل زيت الزيتون والأغنام أم صناعية نسيجية غذائية، إضافة لأهمية تأمين انسياب المواد للسوق السورية من مصادر مضمونة وتعميق أسس المقايضة والتبادل بما يضمن تحريك قواعد الإنتاج.
فربما يصح بعد حين قول “رب ضارة نافعة”، وأن تكون الظروف الحالية دافعاً ليس لإعادة إنتاج هياكل عمل جديدة إنما ذهنيات جديدة بأفق يحقق المصلحة الاقتصادية.
دمشق- البعث