ثقافة

من بيروت.. “أقبح من ذنب”..

طلال مرتضى
همّه وشغله الشاغل أطفال سورية، من منّا لا تأسره كلمة طفل، لا أعتقد أبداً بأن بليداً يرى دمعة على خدّ طفل ولا يمسحها، فكيف إن رأيتم هذا الطفل يُستباح عمداً؟!.
لن تتوه عن بطل حكايتي، هو شاب في عقده الرابع، بهي الطلّة، يأسرك بابتسامته الساحرة، يجوب شوارع بيروت العامرة في كل الأوقات ويرتاد مقاهيها، لا يمرّر أي فعالية ثقافية، سألت صديقاً عنه، رد بتذمر: إنه فنان تشكيلي سوري، لكن لم نرَ أياً من أعماله، كل ما يملكه تلك الحقيبة التي يحملها على ظهره، يسكن في فندق مجاور لشارع الحمراء.
جرت العادة في بيروت، أن كل الأمسيات الشعرية التي تقيمها المقاهي الثقافية، مثل مقهى “عرمرم” و”الستي كافيه” و”زوايا” و”دو باري” وغيرها، يُدعى فنان تشكيلي ليرسم أثناء الفعالية، وكثيراً ما يبرع بعضهم في إثبات موهبته أمام الحضور..
كان ذلك في مقهى “عرمرم”، وجدته منشغلاً بتعليق صور فوتوغرافية كبيرة، لأطفال جرحى وموتى وبعض المباني المدمّرة، تحمل عناوين مختلفة، مجزرة دير الزور، أطفال حي بابا عمرو، وغيرها مما تقشعر له الأبدان..
لم يسعفه الوقت لإتمام اللوحة المبهمة، لكنه استفاض بشرح ما تعنيه تلك الخطوط التي لم تنجز بالكامل لبعض معجباته، وهي حسب قوله: “أرواح طائرة قضت غيلة، تحت البراميل التي رمتها الطائرات فوق بلدتي الآمنة، وهنا بقايا لأشلاء”!!.
استفقت متأخراً من غيبوبتي، عندما عرفت أنها طريقة ابتكرها بعض السوريين، لكسب ما تيسّر من الدولارات، وباب ينطلقون منه للشهرة، تحت مسمّى رسام تشكيلي، ومعارض رأي ليس إلا..
ما إن انتهت الأمسية الشعرية، وخلص الفنان الكبير من شرحه الممزوج بالدم ورائحة البارود النتن، حتى خرجت بعض التعبيرات الناعسة من معجباته:
ـــ “يايي.. هيدا فزيع للغاية.. آموبسبل impossible..”.
ـــ “مش معقول.. وينن أحرار العالم يشوفوا هيدي البلاوي الزرءا.. ييي”.
تعمّد تضييع بعض الوقت، وهو يجمع صوره، لكن صاحب المقهى كان على عجلة من أمره، دسّ يده في جيب الفنان الكبير معتذراً: “وحياتك يا خيي القصة كلها مش حرزانة، وكل هلعلاك ما عم يغطي ثمن العصير.. بس ما تيأس أكيد بتتحسّن الأمور”.
لملم عدة كسب عيشه وغادر دون أن يلتفت إلى الوراء..
ذات مناسبة، وفي منزل صديق لي في ضاحية بيروت، شاركني في الأريكة، الفنان ذاته، قلت معرفاً، أنا فلان من سورية، صمت لبرهة وقال اسمه بتردد، سألته: من أي المدن السورية يا صديقي؟.
ــ قال أنا فراتي.
ــ ليس في سورية بلدة اسمها الفرات، ولهجتك ليست فراتية بالمطلق، فيها شيء من الريف، ولكنها ليست من لهجات الفرات؟!.
تغيّرت ملامح الرجل، وقد تبخرت ابتسامته، علا وجهه شحوب مقيت، قائلاً:
ــ بصراحة أنا لست سورياً، أنا أردني، كانت المرحومة أمي من دير الزور، أعيش في بيروت منذ زمن.
كان “عذره أقبح من ذنبه”، صمتُ لبرهة كي أنصت لصوت صدح في قلبي يقول: لك الله يا سورية، لم ولن تتغيري ، أنت في حربك كما في سلمك، حتى الكلاب التي تسكن الطرف المقابل من الكرة الأرضية، تكسب قوت يومها من دماء أبنائك، صح قول القائل: “الله بيكسر جمل حتى يطعمي واوي”.