ثقافة

في ذكرى وفاته التي صادفت أمس

أبو خليل القباني.. أول مسرحيّ عربيّ يحترف المسرحبلغ من شأن الاهتمام بمسرحياته في يوم من الأيام أن يقوم الفقير الذي لا يملك ثمن بطاقة الدخول ببيع فراشه وأواني بيته وحلي زوجته ليشاهدها، وكان لشدّة الزحام يؤم الواحد منهم القاعة من الصباح ويبقى فيها حتى المساء ليشاهد المسرحية.. ومن شدة الازدحام على أبواب القاعة المقام فيها المسرح كان الدخول إليها يتم تحت إشراف السلطات المحلية، وصارت تباع التذاكر لدى مكاتب المتعهدين قبل ثلاثة أيام، وكان للوالي في قاعة المسرح مقصورة يقصدها كل ليلة”.. إنه رائد المسرح السوري والعربي أبو خليل القباني الذي صادفت ذكرى وفاته أمس، ويبيّن إبراهيم الكيلاني في أحد كتبه أن شغف العامة بمسرحياته بلغ أن أهملوا واجباتهم العائلية وصار سكان الأماكن النائية وتجنباً لأخطار المرور ليلاً في الأزقة يأتون زرافات منذ العصر ويبيتون على أبواب المسرح حتى الصباح، مشيراً الكيلاني أيضاً إلى أن “الناس كانوا يتناقلون على سبيل التندّر خبر اللحام محمد البحاص الذي باع قبر أبيه ليشاهد بثمنه مسرحيات القباني لشدة إتقانه لما كان يقدمه”.
ويؤكد د.شاكر مصطفى في كتابه “القصة في سورية” أن اتصال أبو خليل القباني بالمسرح يعود إلى مشاهدته بعض المسرحيات الاجتماعية التي كانت تُمثَّل في مدرسة العازارية في منطقة باب توما بدمشق والأجواق اللبنانية التي كانت تعرض في دمشق، بالإضافة إلى ما كان يقدمه مارون النقاش في بيروت، وهكذا اطلع القباني على ما يستلزمه العمل المسرحيّ من نص وتوزيع أدوار وملابس وديكور وموسيقا، وقد دفعه إعجابه بهذا الفن الوافد وعدم رضاه عما يُقدَّم في خيال الظل من نصوص متدنية وتقنيات ساذجة إلى الاتفاق مع بعض معارفه لتقديم مشاهد مسرحية في سهرات البيوت، فكانت البدايات في العام 1865 إلا أن البداية الفعلية لأول عرض مسرحيّ كانت في بيت جدّه مع مسرحية “ناكر الجميل” التي ألَّفها متأثراً بحادثة وقعت بين صديقين وقد اقتبس موضوعها من حكايات “ألف ليلة وليلة” وكانت تعتمد حواراً بسيطاً يتضمن مادة شعرية إلى جانب الموسيقا، وقد اشترك في تمثيلها مع بعض الأصدقاء والمقربين واستعاض عن النساء بالفتيان.
وهكذا نجحت التجربة نجاحاً كبيراً ليقوم بعد ذلك بعدة محاولات وتجارب في الكتابة والتمثيل، وشجعه على ذلك أن الوالي صبحي باشا الذي ولِّيَ سورية بين 1870-1871 شاهد إحدى هذه المسرحيات في حفلة خاصة أقيمت على شرفه فشجع صاحبها على المضي في هذا السبيل والخروج بها إلى الجمهور فما كان منه إلا أن ألَّف مسرحية أسماها “وضّاح” في ثلاثة أيام ليمثلها في كازينو الطليان في منطقة باب الجابية بدمشق وقد فوجئ الجمهور بهذا العمل الجريء، ودُهِش لهذا الفنّ الجديد الذي يقدمه إليه فتى دمشقيّ فأقبل عليه وشجعه، وقد زاد الإقبال يوماً بعد يوم على مسرحياته، خاصة وأن كل الولاة الذين جاؤوا بعد صبحي باشا ثابروا على تشجيع القباني في عمله المسرحيّ.

مرحلة الاحتراف
وتذكر المصادر أن مرحلة الهواية في حياة القباني دامت ما يقرب العشر سنوات كان خلالها يغوص في فن المسرح ويرسّخ علاقته بالموسيقا، لتأتي المرحلة الثانية حينما ولّي دمشق مدحت باشا 1878-1879 وهي مرحلة الاحتراف في حياته، حيث تشير المصادر إلى أن مدحت باشا انتقد في بداية حكمه كثرةَ المقاهي التي تُمثَّل فيها حكايات كراكوز وانتقد وجهاء دمشق لإقبالهم عليها متسائلاً: “ألا يوجد في دمشق من يستطيع إقامة مسرح تُمثَّل فيه المسرحيات الأدبية؟” فأجابوه بأن الشاب أحمد القباني يقوم بذلك مع أصحابه ضمن سهراتهم الخاصة، فأمر بإحضاره وكلّفه بتمثيل رواية ليشاهدها بنفسه، فامتثل القباني للأمر وشرح له بأن التمثيل يحتاج إلى مسرح، فأمر بأن يُعطى من بلدية دمشق 900 ليرة ذهبية لهذه الغاية، فاستأجر القباني في جنينة الأفندي في باب توما مكاناً واسعاً وشكّل فرقة مسرحية وقام بشراء الملابس وقدم مسرحية “عائدة” وبهذا الشكل تحقق حلم القباني وتحول إلى محترِف وهو بذلك هو أول مسرحيّ عربيّ يحترف المسرح ويجعله وسيلة عيش وارتزاق، وتحول من مجرد كاتب يكتب المسرحية ويلحنها ويقدمها على المسرح إلى مخرج محترف رسميّ يتولى إخراج المسرحيات التي تقدمها فرقته، ودفعه ذلك إلى تطوير عمله المسرحيّ الاحترافي فاستعان بفتاتين من لبنان هما لبيبة ومريم لتقديم مسرحية “الشاه محمود” وقد حضر الوالي هذه المسرحية وأُعجِب بها، وهكذا ابتسم الدهر للقباني، فالناس تقبل على مسرحه والوالي مشجع له.. ودارت الأشهر إلى أن عرض القباني مسرحية “أبو الحسن المغفل” التي كتبها مارون النقاش وقد قوبلت هذه المسرحية باحتجاج صارخ من قبل المشايخ، وصادف أن مدحت باشا نُقِل من ولاية الشام إلى الحجاز فبقي القباني وحيداً دون حماية فانقضّ عليه المتربصون به متهمين إياه بالاستهانة بالحكام ومَنْ والاهم وبجعل الفتيان يقومون بأفعال الفتيات، فكانوا يرون في ذلك التأنيث للمذكر مروقاً وفسوقاً وخروجاً على قواعد الأخلاق فرفعوا إلى الوالي الجديد احتجاجاً على ما فعله القباني من (بدعة) و(ضلالة) في المسرح وكان ذلك حوالي 1880 ويُقال أن هؤلاء أججوا مشاعر العامة من أفعال القباني فأحرقوا مسرحه ونهبوا بيته فتوقف مسرحه ولم يعد القباني يستطيع العيش في دمشق بعد أن صار الصبيان يلحقون به ويسخرون منه فترك دمشق وسافر إلى حمص وأقام فيها لمدة عامين التقى فيها بكبار الموسيقيين فتعلم منهم وعلّمهم، ولأنه رفض أن يدفن نفسه في حمص سرعان ما سافر إلى مصر عام 1884 لتبدأ في حياته مرحلة جديدة كان لها الأثر في ريادته للمسرح العربي كلّه.
رحل القباني إلى مصر وصحب معه فرقة مسرحية ضخمة ونزل أول ما نزل في الإسكندرية، وكانت شهرة القباني قد سبقته إلى هناك وهي شهرة عالية يدلّ عليها هذا الخبر الذي نشرته جريدة “الأهرام”: “لقد قدِم إلى ثغرنا من القطر السوريّ الكاتب المشهور والشاعر المفلق”.
ويذكر الباحث د.سيد علي إسماعيل في كتابه “جهود القباني المسرحية في مصر” أن فرقة أبو خليل القباني هي أول فرقة مسرحية عربية تقدم عروضاً مسرحية منتظمة بالفصحى في مصر” مؤكداً أن قدوم فرقته إلى الإسكندرية عام 1884 كان حدثاً فريداً استقبلته الصحافة المصرية بالابتهاج الكبير، ويذكر أن مسرحيته “أنس الجليس” كانت أول عرض لفرقته في مصر وقد حقق نجاحاً كبيراً في الإسكندرية التي اختارها لتكون المحطة الأولى له في مصر، ويذكر فرحان بلبل في كتابه “المسرح السوري في مئة عام 1847-1946” أن القباني مثّل في الإسكندرية نحو 35 حفلة قدم فيها مسرحيات كثيرة وكان يتبع بعضها بفصول مضحكة وفصول أخرى من التمثيل الإيمائيّ، وهكذا إلى أن دعاه الخديوي توفيق إلى القاهرة ليقدم عروضه هناك حيث قام القباني باستئجار مسرح البوليتياما للتمثيل الذي مثّل فيه عدة مسرحيات، وبعد فترة عاد إلى الإسكندرية ليتابع هناك تقديمه لبعض المسرحيات القديمة، ثم عاد إلى دمشق التي أحضر منها فرقة جديدة بالإضافة إلى عائلته، وهكذا أخذ يعرض مسرحياته ما بين عام 1884 و1900 متنقلاً بين دمشق والمدن المصرية، مبيناً بلبل أن أهل مصر اهتموا بالقباني اهتماماً كبيراً وعنوا عناية فائقة بفنّه المسرحيّ والموسيقيّ، منوهاً أن ذلك كان نتيجة غاية القباني من مسرحه وهي إصلاح النفوس وتهذيبها وتنوير العقول لتكون آخر مسرحياته في مصر بعنوان “مطامح النساء” حيث جاءه وهو يقوم بعرضها في منطقة المنيا خبرُ احتراق مسرحه في القاهرة في 18-5-1900 وتتعدد الأقاويل حول سبب احتراق هذا المسرح ليتفق الجميع على أن ما حدث معه في سورية قد تكرر ثانية في مصر بعد أن كثر عدد المتضررين من نجاحه الكبير هناك.

ستة أشهر في شيكاغو
في العام 1900 عاد القباني إلى دمشق بعد أن أقام في مصر 17 عاماً، مع الإشارة إلى أنه في الفترة بين آخر إقامته في مصر وبداية استعداده للانتقال إلى دمشق دُعي إلى معرض شيكاغو في أميركا بعدما شاهده في القاهرة بعض الأثرياء من السياح فأعجبوا بفنّه التمثيلي ودعوه إلى زيارة المعرض فسافر إلى هناك وأقام ستة أشهر كان يقدم خلالها روايات قصيرة، أما حين استقر في دمشق فتذكر المصادر أنه كان يقيم الحفلات الموسيقية الغنائية ولم يقترب من المسرح الذي تخلى عنه بعد عودته النهائية إلى دمشق، ويذكر وصفي المالح في أحد كتبه أن آخر حفلة موسيقية غنائية أقامها القباني كانت عام 1901 وكانت عجب العجاب براعةً وإبداعاً وتأثيراً في الناس وكانت هذه آخر حفلة غناء في حياته وقد مات سنة 1902.
إعداد: أمينة عباس