محمود سعيد: صمت الرحيل.. بلاغة الحضور..
لم يدر في خلد الفتى «محمود سعيد» ابن السابعة عن عمره، أنه سيصبح نجماً واسع الطيف، وعائلته ترحل إلى جنوب لبنان إثر حرب 1948، وهو يدخل مسابقة الإذاعة اللبنانية، ويفوز ليبدأ مشواره الفني بالعلامات والمحطات والإشارات، ويصبح اسمه محمود سعيد فارس الدراما العربية، وبطلاً لعدد من المسرحيات أشهرها «حكمت المحكمة، مسرح الخير، بيروت في الليل» هو خالد بن الوليد في فيلم المخرج الراحل الكبير مصطفى العقاد «الرسالة»، وهو بطل «فارس ونجود»، وهو الاسكندر المقدوني وعمر الخيام، وعنتر يغزو الصحراء، وصقر العرب، وأسير المحراب وغيرها الكثير.
كيف تتعدّد تلك الشخصيات في بوتقته لتصهرها روح ثرية الموهبة، فائضة الخيال، كان ابن يافا، المتعدّد في شخصياته المركبة، التاريخية والاجتماعية، والوطنية جملة مكتفية في سفر الدراما العربية، ليست بأقل من جملته الوحيدة «البدوية» في برنامج من وحي البادية: «إن ما تريدون النوم غيركم يريد أن ينام» لتصبح بطاقته لعالم النجومية المثير والخطر بآن.
هو واحد من جيل الفنانيّن الفلسطينيين الذين أغنوا الحياة الفنية والثقافية العربية، في بلاغة حضور متنوّع الأبعاد، كلوحة ضاجّة بألوانها الباذخة، وهو من رسم يوماً الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ونظم الشعر وغنّى وارتحل في الزمان والمكان، طائراً غَرِداً في دوحِ فنٍّ أصيلٍ، تماهى كعاشقٍ مع لغته ومفرداته الفواحّة بالجمال والإبداع، وظلّ في أعماله حارس الروح والوجدان، إنساناً عاش بما يكفي «أسطورته» وظلّ شعاعَ نور يخترق برسالته، وصورته وصوته أزمانه الأخرى.
محمود سعيد، سيظّل سادنَ زمن جميل، بروحه وبإبداعه المثقّف، وهو يرحل بصمت، لكن بلاغة حضوره الراسخ، قيمةً ودلالة، الباقي بآثاره كلها التي لا تزول، كذلك، يبقى ذاكرة خصبة وشهية لا يطاولها النسيان، ذاكرة فلسطينية وعربية، نقية مثل ابتسامته التي تشرق من جديد..
حينما زار دمشق لآخر مرة كان الإعياء قد أخذ منه كل مأخذ، فيما بدت عيناه اللامعتان ببريق قلبه تنظران إلى دمشق وهو يهمس في أذني-ذات مساء دمشقي- صيفي: أنا لم أخرج من دمشق إنني مسكون بها وبياسمينها وبكل تاريخها وهو يعبر كل أزمنتي وأمكنتي الأخرى، يكفيها أنها دمشق التي أرنو إلى أن أعيشها في لوحة درامية أقول فيها جملة ولو وحيدة نحبك دمشق وستظل أعمارنا مدينة لذلك العشق حد الأسطورة.
لكنه مضى في غير مكان وزمان وظلت دمشق كحلم يراوده وهو يسافر به إلى البعيد القريب.
أحمد علي هلال