في حديقة الستين.. جلس فخر الدين على مقعد الشمس..
من يمنع الشاعر جودت فخر الدين، أن يرسم حياته في القصيدة، أو ليست صورة الشاعر، هي هاجس “وجودي/ فلسفي”، أليست القصيدة محاكاة لوجوده، ونزوعه نحو الحنين، حتى بعد أن يفنى جسده، وأن يعيش – عمره- داخل القصيدة في خلودها!.
في نصه السردي، والذي جاء على مقاطع استقلت بعناوين تكاملت في نسيجها السيّري، وزّع الشاعر حيواته كلها، كقابض على المستحيل، محاكياً صيروراته المدهشة، في الحلم والرغبة والتشهي، ليشكل أيقونته في نصب رمزي، عدّه النقاد “أسطورة الفنان، أو الشاعر” أو “أمثولته الشخصية”، ولربما كان الشاعر يحاكي النحات العالمي “رودان” صاحب “تمثال المفكر”، أو لعله يقاطع الشاعر “وورد زورث” حين كتب “مساء العمر الجميل”.
لحظة انفتاح الأسئلة، لحظة الوقوف أمام المرايا، هي مكاشفة، أم إرضاء للذات؟. يقول الشاعر جودت فخر الدين “ستون عاماً، فكيف وصلت”، أسئلة بالمطلق، وها هو يعيش حيرة الحياة في ثنائية التضاد، يقول: “ماذا سأختار من بعد؟ كانوا الهدى والضلالة، كانوا العداوة والحب، كانوا الصداقة والحقد”.
يلازم الأمل رحلته التي ظل يرقبها عن كثب ويغنيها: “قبس خافت يتلألأ كالنجم في العاصفة”، مستسلماً لدورة الحياة “الولادة والموت”، والصمود والانهزام داخل مقاربات انزياحية تجعل من الأشجار دريئة ما أراد من قول: “أشجار لا تدري كيف تقاوم، أشجار تنمو، أشجار تذبل، أشجار تشمخ، أشجار يمحوها الظل أو الضوء”.
اللحظة الأكثر صدقاً، اللحظة الأكثر تجرداً، هي لحظة حضوره في أناه، لابساً جلباب أبيه، أصبح الآن أباً، أصبح الأشياء كلها التي كانت في أبيه، تداخل في غفرانه، أراد لشمس روحه أن تكون أكثر نقاء، أكثر حبّاً، أكثر صعوداً: “يا قبر أبي، لم تُثبتْ – بعد ثلاثة أعوام- أني غبت، ولا أنّ أبي ينأى” متابعاً محاكاته: “كنا نتواعد، أصبحنا نتلازم، كنا نتلاشى، كنا نتشاكى، أصبحنا نتكامل”، إلى لحظة من الانكشاف العالي لمراد القول الشعري: “لن تشهد يا قبر أبي، أن الواحد منا يتوارى دون الآخر، أن الواحد منا يحضر دون الآخر، لن تشهد يا قبر أبي، بل إنّك تصعد بي، تصعد بي، تصعد بي..”.
في مقطع “مقعد الشمس”، يتابع الشاعر ساعة الحقيقة، يعود إلى ذاته مسترجعاً أسئلة يمقتها، معلناً خريف روحه كتلك الشمس التي تجيء وتغادر في خفّةٍ، يقول الكلام: “تعرف الشمس مقعدها في الحديقة، تتهيّأ لي كي أفيء إليها، هي شمسي التي تتفقدني كأختٍ، تغادر في خفةٍ، فأظل وحيداً بمقعدها”.
اللحظة الأشد إيلاماً، اللحظة الأشد انكساراً، وقوفه- متصالحاً- مع ذاته، حين بدأ يرسم الأشياء ويحاكيها، في المقطع الثامن والمعنون بـ “صورة الصوت” محدثاً في هذه العتبة شغباً هو من مألوف اعتاده الشعراء في التفاتاتهم “اللعبة” داخل الكلام، وفي منح الفكرة “الموضوع” سطوة الغاية، يقول فخر الدين: “سمعي، وإن خفَّ قليلاً، صار كالمصفاة، يدري كيف يستقبل أو يحجب، هل بات سمعي حارساً لي: يجعلني أسمع ما ينساب مني، من لساني، أو فؤادي، أو شرودي”.
في المقطع الأخير “بيت” يعود الشاعر نحو محاكاة داخلية، صوب البيت الذي أشاده بأحجار الحب والحنان والشغف، وكان على يقين تام، أنه الضيف، الذي أقام في باحة العصف والخوف والقلق ويراه بيتاً للرحيل يقول فخر الدين: “بيت لنا لا يخبئ أسرارنا، بل ينقي الهواء بها، فيهدهدها في أسرة أحلامنا، هو قلب الحديقة، بيت الرؤى والغيوم الشريدة، بيت أقمناه حتى نقيم، فلم نستطع، وهو لم يستطع”.
وهكذا نجد أن قصيدة الشاعر التي كثفت أكوانه الشعرية بمغايرتها وخصوصيتها، وانتباهتها للحظة الشعرية العابرة للأجناس، والمتعينة في نسيجها اللغوي ودرامية حدثه هي قصيدة حاضرة على امتداد تجربته وتنوعها الدال في لغة ثرية من شأنها أن تمنح المتعة والمعرفة بآن معاً.
طلال مرتضى