لدينا أفلام عربيّة وأجنبيّة وهنديّة
هذا التّصنيف غير المدرسي والمُعتمد في الإعلانات المكتوبة عند واجهات صالات السّينما في أكثر من مدينة عربيّة، يشي بحقيقة أنّنا ننظر إلى الهندي على أنّه غير أجنبي، وإنّما هنديٌ وحسب. وإذا أرجأنا حتّى حين النّظر في كلمة أجنبي الّتي تعني غريب، فإنّ هذا التّصنيف ينطبق كذلك على الحياة الواقعيّة، فنحن نستخدم كلمة أجتبي لتسمية الغربي تحديداً، ونسمّي الآسيوي باسم بلده. ولهذا أساسٌ تاريخيّ يستأهل الوقوف عنده.
الهند والصّين، لم يُنظر يوماً إليهما على أنّهما بلاد أجنبيّة أو غريبة، وهذا يُمكن توثيقه بالاستناد إلى تاريخ القصّة العربيّة الّتي أخذت تتلمّس طريقها في مرحلة مبكّرة من الأوان العبّاسي مع ابن المقفّع بوصفها نوعاً أدبيّا منفصلاً عن القصّة الدّينيّة والحكاية الشّعبيّة، فهو لم يجد ضيراً في أن يترجم أو أن ينسب كليلة ودمنة إلى حكيم هندي، وبعده بقليل ظهرت ألف ليلة وليلة زاخرة بالتّفاصيل والحضور الشّرقي، فاسم الفتاة القاصّة مع أختها والملك كانت أسماء فارسيّة، ومسرح الأحداث كان يمتدّ في فضاء جغرافي شاسع من مصر وشمال وشرق أفريقيا إلى الصّين والهند وشمال آسيا، فتولّع مؤلّفوها المجهولون بعمليّة توحيد قصصي لذلك الفضاء، فازدحمت بعبارات من قبيل “وقصد إلى مدينة الصّين” و”وكان فيها حكيماً هنديّاً”، وإذا افترضا أنّ الحديث “اطلبوا العلم ولو في الصّين” ليس صحيحاً وإنّما منحول، فإنّ الّذي نحله لم يجد مشكلة في ذكر اسم الصّين في موضعٍ كهذا..وأمّا الغرب، فبقي في الحكاية شأنهُ شأنُ الواقع؛ عالماً معادياً لا يُستحبّ نقل حكاياته والتأثّر بقصصه، وبالإضافة للأدباء الّذين لم يُقدموا على اقتباس حكاياته أو نسبتها إليه، فإنّ الفلاسفة العرب الّذين بحثوا نتاج أرسطو وترجموه وشرحوه وأعادوا تقديمه للعالم، تجنّبوا الخوض في تلك الّتي وضعها حول الدّراما، وأعني هّنا فنّ الشّعر، وهذه القطيعة كانت مستندة إلى العداوة الطّويلة الأمد الماثلة في الأذهان، والّتي ترجع ليس إلى الحروب الصّليبيّة وحسب، أو إلى الاقتتال في الأندلس، بل لأوانٍ قديمٍ خلا، فكانت قبل ذلك بين الفينيقيين وروما، وبين الفرس واليونان وبعدهم الرّومان، وبعد انتشار المسيحيّة في القارّات الثّلاث، والّتي كانت من المُفترض أن توحّد الشّرق مع الغرب على أساس ديني، فإنّها سرعان ما انقسمت بين كنيسة شرقيّة وغربيّة فورثت ذلك الصّراع القائم على أساس جغرافي في حقيقته وأسبابه ومعناه، فحملت الكنيستان لواء هذه العداوة من جديد، ولمّا تعرّض المشرق العربي الإسلامي للحملات الصّليبيّة، حدث ذلك على أساس جغرافي لا ديني، فالكنيسة الشّرقيّة عانت من تلك الحملات كما عانى العالم الإسلامي إن لم يكن أزود سواء في أنطاكيّة، أو لاحقاً في القسطنطينية، وبعد كلّ ذلك التّاريخ الشّاسع، عادت هذه العداوة للحضور فيما عرفه العالم باسم: الحرب الباردة. فهذا التّاريخ العدائي مع الغرب لم يتوقّف في ما يُسمّى عصور حديثة أو معاصرة، وصار يُطلق عليه اسم استعمار، فما الّذي تغيّر اليوم كي تصير حكاياته القادمة على شكل فيلم رائجة تملأ الدّنيا وتشغل النّاس؟ يجب علينا هنا أن نخمّن مشاعر فيتنامي يُشاهد فيلماً أمريكياً من مئات الأفلام الّتي اتّخذت من حرب فيتنام مادّةً رئيسيّةً لها، أو لنقل على سبيل المثال، مغربي يُشاهد فيلم كازابلانكا، وهو فيلم اختارته جمعيّة كتّاب أمريكا كأفضل سيناريو في تاريخ السّينما الأمريكيّة، فكيف هي القصّة الّتي سوف تعرض لذلك المغربي: بطل الفيلم أمريكي يمتلك ويدير حانة في الدّار البيضاء، تظهر حبيبته الفرنسيّة في أجواء صراع مع ضابط ألماني وآخر فرنسي وثالث إيطالي كترميز للقوى المشاركة في الحرب، وليس ثمّة ما يُشير إلى المغرب إلّا بعض أصوات الباعة باللّغة العربيّة، ثمّ بائع محتال حاول أن يغشّ حبيبة البطل في مشهد عابر، وذلك بتخفيض السّعر مرّات عديدة، ثمّ يختفي أهل البلد من القصّة، وتعود الشّخصيّات الغربيّة إلى رسم الأحداث إلى أن ينجح الأمريكي بإنقاذ حبيبته الفرنسيّة الّتي تُغادر كازابلانكا مع زوجها تاركةً البطل فيها، ومعه كذلك المُشاهد المغربي ولكن ليس في كزابلانكا، أو أي مكان آخر، بل خارج التّاريخ.
من الصّعوبة معرفة إذا كان إحجام الأدباء العرب في الأوان العبّاسي عن الاقتباس أو التّأثّر بالإلياذة والأوديسة يرجع لنفس الأسباب، فهما كُتبتا في تمجيد حصار عسكري لمدينة مشرقيّة في الأناضول من قبل قوى غربيّة، فقد يكون ذلك التّصوّر ليس واضحاً على هذا النّحو، بل من المبالغة ذكره في هكذا سياق، ولكن السّؤال الملحّ اليوم: كيف تقوم صالة بعرض فيلم في تمجيد بطولة شخصيّات غربيّة قامت بإحباط تهريب سلاح فتّاك يقوم بتهريبه شخصيّات مجرمة من نفس جنسيّة أو بلد أو ثقافة المُشاهد وأصحاب صالة العرض؟ فهذا يقود إلى انشقاق في الهويّة يقوم على معاداة الذّات، والرّغبة بإلحاق الهزيمة بها تيمّناً بالبطل الّذي يواجهها، ففي معظم الأفلام من هذه النّوعيّة يتعرّض المُشاهد للهزيمة سينمائيّاً، ويعود بطل الفيلم إلى حضن عائلته بعد أن يظفر بالعدو.
لقد عكست السّينما “الأجنبيّة” مصالح وواقع التّجربة الاستعماريّة للغرب، بينما جُعلتْ السّينما العربيّة والهنديّة في حالات كثيرة لسان حال تجارب التّنمية وتقديم النّصح والعبرة والتّوعية الاجتماعيّة، وتوحيد لأبناء المجتمع حول مسائل محدّدة كامتداد للدّور المشرقي القديم للحكاية، والأصوات السّاخرة الّتي ارتفعت تنتقد السّينما الهنديّة في السّنوات الأخيرة واصفةً إيّاها بأنّها سينما اليتيم الّذي يعثر على أخيه في نهاية الفيلم، لم تفعل ذلك لصالح السّينما العربيّة أو كمقارنة بها، بل لصالح الأجنبيّة المتفوّقة سواء عليها أو على العربيّة، هذا التّفوّق الّذي لم يقم على المضامين بل على الإمكانيّات الهائلة الّتي جعلت السّينما الأجنبيّة مبهرة وآخذة بالبصر.
اليوم، لم تعد هذه الجّملة “لدينا أفلام عربيّة وأجنبيّة وهنديّة” تُلحظ عند واجهات الصّالات المُترفة أو الرّاقية إن صحّ استخدام هذا التّعبير لوصف تلك النّوعيّة من الصّالات المُلحقة بفندق عالي التّصنيف أو بمجمّع تجاري ضخم، وبقيت عند صالات بائسة في الشّوارع غير الرئيسيّة، تنتمي إلى عالم آخر أقرب إلى الثمانينيات والتّسعينيّات منه إلى عالم اليوم، حين كانت الحكاية الفيلميّة الهنديّة والعربيّة قادرة على المنافسة، ولو على مستوى وضعها في ذلك التّصنيف الثّلاثي للعالم السّينمائي.
تمام علي بركات