ضمن سلسلة “أعلام خالدون” أسامة الماغوط: ظل محمد الماغوط محكوماً بالحزن … ولو كان على قيد الحياة ورأى ما يحدث في سورية لمات على الفور
اعترف الكاتب أسامة الماغوط في تصريحه للبعث على هامش محاضرته التي ألقاها مؤخراً في ثقافي أبو رمانة عن عمّه الكاتب الراحل محمد الماغوط ضمن سلسلة أعلام خالدون أنه لا يستطيع أن يتجرد من علاقته بمحمد الماغوط حين يتحدث عنه كإنسان ومبدع، نافياً نجاحه في الحديث عنه بشكل حياديّ أو نقديّ، مبيناً أن النقد يصبح بارداً عندما يتحدث عنه فلا يستطيع أن يتحدث عن شعره نقدياً ولكنه يعرف تماماً كيف كانت تتكون القصيدة عنده وما هي يومياته كمبدع، مشيراً إلى أن أهم ما يميز شعر الماغوط أنه كان للناس والنخبة، وأن كل أعماله انطلقت من الهموم العامة كالحرية والديمقراطية والهموم الخاصة كالجوع والفقر.. من هنا كان شعره شعر السهل الممتنع، وعاش حياته زاهداً رغم الشهرة الكبيرة التي تمتع بها كنوع من الاحتجاج على كل شيء يؤذي الإنسان والإنسانية، فالتزم البيت والكتابة، أما الحزن فكان مرافقاً له منذ الولادة، فهو محكوم بالحزن دائماً ونشر أول مجموعة شعرية له تحت عنوان “حزن في ضوء القمر” وبيَّن أسامة أن حزن الماغوط كان ناتجاً عن معاناته الشخصية، فهو ينتمي لأسرة فقيرة تعيش في مدينة على أطراف الصحراء، منوهاً إلى أنه عاش حياة غير مستقرة وعندما أراد أن يستقر في بداية السبعينيات اختار دمشق ولم يغادرها فكانت المقام الذي لم يستطع أن يفارقه وكلما غادرها يوماً كان قلبه يرجع إليها مع دخان القطار كما كان يقول، لذلك أكد أسامة أن محمد الماغوط لو كان على قيد الحياة في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها ورأى ما يحدث في سورية بشكل عام ودمشق بشكل خاص لمات على الفور، وأوضح لمن يتساءل عن أسباب غنى محمد الماغوط الفكري والإبداعي وهو لم يتابع تعليمه أنه تحصّل عليه من حياته وقراءته الكثيرة وهو الذي كان متابعاً للحياة السياسية والثقافية.
قصيدته الأب الشرعي لقصيدة النثر
في حين بيّن المحاضر في محاضرته أن الماغوط انضم إلى جماعة شعر، وهو يذكر في أحاديثه أن أول من اكتشفه كشاعر كان أدونيس وذلك في إحدى جلسات المجلة حيث قرأ قصيدته “القتل” بحضور يوسف الخال وأنسي الحاج والرحابنة دون أن يعلن عن اسمه، فتركهم يتخبّطون: بودلير؟ رامبو؟ إلى أن أشار أدونيس إلى الماغوط وقال: هذا هو الشاعر، مؤكداً المحاضر أن محمد الماغوط تجاهل كل القوانين القديمة التي تحكمت بأصول الكتابة الشعرية، لاسيما في مجموعته الشعرية الأولى “حزن في ضوء القمر” عام 1959 التي جاءت بمثابة بيان شعريّ يملأه الحزن والصراخ لتأتي فرادة قصيدة الماغوط بصوره الشعرية المبتكرة ولغته النافرة كأب شرعيّ لقصيدة النثر العربية حيث استطاع أن يقلب الطاولة على كلّ أبناء جيله مما أربك النقاد في التعامل مع أشعاره ليضطروا للاعتراف بها واستثنائها كمادة أدبية عالية المستوى، موضحاً أسامة أنه ليس لمحمد الماغوط عالم منظّم في كتابة الشعر.. إنها فوضى أشبه ما تكون بمعركة خيول في الغبار.. رويداً رويداً تنجلي المعركة، ودائماً يكون الصدق هو بوابة قصيدته وخاتمتها، فهو لا يكتب إذا لم يكن مثخناً بالجراح، وهو لا ينتظر ثواباً على ما يكتب بل عقاباً كما كان يقول لقناعته بأن ما من موهبة في العالم العربيّ تمرّ دون عقاب، أما مفهوم الماغوط لقصيدة النثر فيعبّر عنه محمد الماغوط بنفسه حينما قال كما يشير أسامة: “الشعر نوع من الحيوان البرّي.. الوزن والقافية والتفعيلة تدجّنه، وأنا رفضتُ تدجين الشعر وتركتُه كما هو حراً، ولذلك يخافه الجميع، وأعتقد أن قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربيّ الذي كان قائماً على القسوة والغطرسة اللفظية”.
كذلك ذكر المحاضر قولاً لمحمد الماغوط: “أنا أشبه الصياد.. أشعر بغريزتي وليس بعقلي، وكلما تقدم العقل خطوة تراجع الشعر خطوتين.. العاطفة والشعر توءمان سياميان، يعيشان معاً ويموتان معاً، والعقل متلصص عليهما”.
مسرحه
بداياته في كتابة المسرحية كانت كما بين المحاضر عبارة عن قصيدة تحولت إلى مسرحية، لتتتالى بعد ذلك مسرحياته: “المهرج- خارج السرب- غربة- ضيعة تشرين- كاسك يا وطن” وقد زاوج الماغوط من خلالها بين المسرحين الشعريّ والسياسيّ، ويصف النقاد تجربة الماغوط مع فرقة أسرة تشرين التي أخرج الفنان دريد لحام أعمالها للمسرح أنها كانت من المسرحيات المحيّرة نقدياً لما يتمتع به هذا المسرح من روح السخرية والمرارة والنكتة الشعبية وبين الغنائية والاستعراضية، في حين أعاب الراحل سعد الله ونوس على هذا المسرح تحديداً نزعته التنفيسية، واضعاً مسرح التفريغ في مواجهة مسرح التحريض الذي دافع عنه ونوس.
الموت يحاصر الماغوط
وختم أسامة الماغوط محاضرته منوهاً إلى فترة الثمانينيات في حياة الماغوط وقد وصفها بالصعبة والقاسية عليه والتي بدأت بوفاة شقيقته ليلى بمرض بعد الولادة مباشرة عام 1984 ثم وفاة والده عام 1985 لكن الأصعب والأقسى برأيه كان وفاة زوجته الشاعرة سنية صالح عام 1985 ويقول الماغوط عن تلك الفترة: “حين كانت سنية مريضة جلستُ بقربها وهي على فراش الموت أقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر فقالت لي عبارة لن أنساها أبداً: أنت أنبل إنسان في العالم” وأوصت الشاعرة المحتضرة زوجها بعدم الزواج بعدها وتربية ابنتيهما شام وسلافة، وها نحن نسمعه يقول: “لم أكن عائلياً محبّاً لحياة الأسرة.. الآن فقط بعد رحيل سنية أصبحتُ محبّاً للمنزل والعائلة” فظلّ الماغوط مخلصاً لذكرى زوجته حتى آخر حياته، ليودع في العام 1987 أمه ناهدة وهكذا ترك الموتُ الحزن في عمق روح الماغوط الثائرة والمتمردة حتى اعتبره البعض شاعر الرثاء.
أمينة عباس