ثقافة

بعد صدور مجموعته” سوناتا عذوبةٌ تبعثر الكستناء” الشاعر أوس الأسعد..مللنا الأدب المعلّب بمواصفات جاهزة مسبقة الصنع

مع أنّ أغلب الشّعراء يحتكمون إلى الزمن في تقييم ما يصدر من شعر لهم،يبقى الشّاعر نفسه هو أحسن ناقد لتجربته ٌ و على اعتبار أنّ النقد عندنا،كحالة إختصاصيّة ،هو رهين السّبات،وقاصر عن مواكبة النتاج الأدبي عموماً والشعري خصوصاً،لذلك قد يكون الشاعر هو الحكم  كما يبين  الشاعر أوس الأسعد في حواره مع البعث ،وهنا يجب أن ننتبه  برأيه كثيراً، فثمّة مدّاحون لأنفسهم كثر،وهذه مشكلة حقيقيّة، لذلك قد يشفع للبعض منهم أنهم متابعون للجديد النقدي ومتطورون على صعيد الذّائقة والحساسيّة،ويسعون لشحذ أدواتهم كلّما وهنتْ بالتثقيف الدائم بعيداً عن المألوف والمستهلك،وبحثاً عن المختلف والجوهري في الطبيعة والمجتمع.
ويؤكد الأسعد وهو الذي أنجز حتى الآن على الصعيد الشعريّ ستّ مجموعات شعريّة ، صدر آخرها عن الهيئة السوريّة للكتاب أواخر عام 2014م بعنوان ” سوناتا عذوبةٌ تبعثر الكستناء ” أنه سعيد بما أنتجه حتى الآن خصوصاً المجموعتين الأخيرتين.لأنّهما ولدتا وقت الأزمة الخانقة التي نعيشها على مستوى الوطن، و بذلك فهما يشكّلان ردّاً إيجابيّاً على الخراب الحاصل، أمّا خصوصيّة المجموعة الأخيرة فتكمن في حميميّة الإسم ، وميزتها برأيه تنبع من كونها حملت إسم ابنته -كما وعدها- ،وهي تلك القرنفلة التي يعتزّ بوجودها في حياته، لأنها أضافت لكينونته كلّ جميلٍ مفتقد، تاركاً إنجازه الشعري لذوي الصّنعة، القرّاء والنقاد المتابعين الذين يحترم أقلامهم وذائقتهم.
ولأن ” سوناتا ”  ابنته القاسم المشترك لمعظم ما يكتبه ، يتكلّم باسمها ويكتب الشعر بحساسيتها ويرى العالم من خلال منظورها ، يبين الأسعد أن  ” سوناتا” هيً، تلكَ الفتاة التي استطاعت اختزال مفاهيمه حول الطّفولة، بما تكتنزه من لطافة وحيويّة تجلّت في اهتماماتها المميّزة والمختلفة،و لأن ما يبحث عنه الشاعر دوماً،أوما يبحث هو عنه  العودة إلى منابع الفطرة والطّفولة، حيث الدهشة العليا والأسئلة اليانعة، فإنّ روح” سوناتا” تسري في جميع ما يكتبه وماسيكتبه، فنحن مهما كبرنا فثمّة طفل داخلنا لا ينفكّ يلاعبنا كي نكتبه،طفل يواظب على الدوام في مدرسته البعيدة، مشخبطاً على حيطانها ومقاعدها، لاهياً في باحتها، مستأنساً بأصوات زرازيرها، رابطاً النّجوم بخيوط طائرته الورقيّة كي لا تسقط على غفلةٍ وتخبو.. تلك الطّفولة التي نظلّ نمتحُ من بئرها ما حُيينا ،وكلّما أصاب الوهن المخيّلة وجفّت مياه الذّائقة، ندنو من النّبع لنغرف زاداًجديداً.

قصيدة النّثر  واقع مكرّس
ويتفق الأسعد  مع من يقول : أنّ الشعر لا يكون شعراً إلا بقدر خيانته للمألوف ” بنسبةٍ كبيرة،ويحاول خيانته أيضاً، لأنّ انتاج اللّامألوف برأيه قد يؤدّي للتغريب العبثي والمجاني ، ومن هنا يجب الحذر.!  مع تأكيده على أن هذا القول قد يندرج  ضمن تعريف الشعر لدى/بول فاليري : بـ “أنّه لغة ضمن اللغة ” أو هو طرح للأشياء العاديّة بطريقة غير اعتياديّة، موضحاً  أننا مللنا الأدب المدرسي،المعلّب بمواصفات جاهزة مسبقة الصنع، والخيانة للسائد هنا ستكون مسؤوليّة كبيرة ،لأنها تعني التأسيس لنمطٍ جديد يساهم بتطوير الذائقة المستعدّة لتقبّل كل تطوير،رغم  التابوات التي تخنقها على المستوى الثقافي العام وعلى المستوى الإبداعي،أيضاً فذهنيّتنا النّقليّة  كما يشير قد تهتّكتْ وعلاها الصّدأ من كثرة ماحاكتْ السّلف وتمثّلته، دون تطوير بحجة المحافظة على الذّاكرة التراثيّة ، والأصالة حتى غدا الأمر ،مجرّد اجترار لأقوال الأوّلين لا أكثر،منوهاً إلى أن إغلاق باب الاجتهاد كان أكبر مصيبة  حلّتْ بالتاريخ العربي بشكل عام وجعله محبوساً ضمن مفاهيم فقهيّة متكلّسة،وفيما بعد ضمن تابواتٍ سياسيّة عبدتْ الأفكار فكان مصيرها الاختناق ضمن منظوماتها لتتحوّل بدورها إلى مدارس اجتراريّة بعيدة عن روح النّقد والتّجديد.، ولذلك يرفض الأسعد أن يقال:” أن الشعر في كارثة وقصيدة النثر هي التي تنذر بذلك” ويستغرب  وجود  من يناصب العداء لقصيدة النثر رغم أنّها باتت تيّاراً  أدبيّاً غير حديث،موضحاً أن  كلّ رأي إطلاقي وباء يجب التّحصّن تجاهه، ولعلّ قدرة الشعر على الانفلات من المعايير الصّارمة قد فاجأت مشائخ وفقهاء التقاليد الأدبيّة، وأرعبتهم ديناميكيته المتنامية وتجريبيّته التي شطحت باتجاهات مختلفة، تعدّت قصيدة النّثر التي غدت واقعاً مكرّساً لا يتناقش عاقلان به، وبالتالي فأن ما يقوله  بعضهم هو مجرّد رأي ينقصه الكثيرمن الاتزان، ومن غير الطبيعي  برأي الأسعد  أن يستمع المرء لآراء غدا مكانها الطبيعي المتحف، في زمنٍ يعصف بكلّ شيء، والمصيبة أن لهذه الآراء شبائه وممثّلين في مجالات الثقافة عموما. وهذا يعني أنّنا في محنة حقيقيّة، لأنّ القديم مازال يتشبّث بوجوده رغمَ رياح التغييرالتي تهبُّ علينا من كلّ الجوانب.، مشيراً  الأسعد إلى أن كل ما نكتبه أدباً وشعراً وثقافة بمختلف تجلياتها ،هو رهين المعيش ومحرّماته، لأننا ولدنا في بيئات محكومة بتابوات وطوطميّات معقّدة ،تمنع التجديد، وهوهنا لايتهم الأشخاص بل الذّهنيّات والمنظومات الفكرية وآليّة التّفكير المحكومين بها على الصعيد الأسروي والمجتمعي المؤسّساتي،حيث نتغاضى عن هبوب رياح التغيير التي تصفع أبوابنا وتهزّ أركان قلاعنا من كلّ الجهات وبدلاً من نحصّن تراثنا بمزيد من المثاقفة ومدّ الجسور مع القادم لنعيد إنتاج أسئلتنا بأجوبة أكثر رحابة، فإننا نبني بيوتاً زجاجيّة أخرى سرعان ما ستنهار. ؟!.ومن هنا نرى الكثير من النتاجات تنضحُ بالمتشابه والمتهافت ،والقليل الذي قد لا تتعدّى أمثلته أصابع اليد ،هو من يحمل صفة المتميّز.لذلك لا ينكر الأسعد أنه يحاول تعميق أسلوبه الأدبيّ بحيث يقبل نصّه القراءات المختلفة ، وهو سعيد بذلك لأنّه يرى بالنّص الصّوفيّ بالمعنى الجمالي، أسلوباً عاليَ الإيحاء  فهو يختزن الكثير من الطّاقة  والقابلية للتأويل والاحتمالات المختلفة،ومن هنا نرى أغلب نصوص المتصوّفة تحمل قيمة جماليّة ومعرفية أكثر من غيرها، وهو أحبّ هذه الإمكانية التوليديّة للصّور التي تساعد على اقتناص المدهش والبكر من الكلمات.

الحاجة لاستعادة الأنوثة
ويتشابه الأسعد  مع الكثيرين  في مقولة “على قدر معاناة الكاتب تولد الكتابة وتأتي بالقيمة” ولكن لظروف خاصة ،قد يكون عاش تعباً حياتيّاً مضاعفاً،لأسباب كثيرة،ليس بصدد الحديث عنها وأن أغنت رؤيته للحياة أكثر،إلا أنه يرفض أن تكون الكتابة   مجرّد ردّ مباشر على المعاناة  وأن كانت كذلك فهي لا ترقى فوق مستوى الحطب اليابس، ولكن لو استطاعت النفاذ إلى ما وراء الأشياء واكتشاف النور الخافت في لبّها، والذي هو روح النّار العليا،فسيكون ثمّة أبعاد أخرى للمسألة،وهذا ما يحاول اكتشافه .
ورداً على من يقول أنّ العالم الناقص يحتاج إلى الشّاعر للكشف عن ذلك النقص  يوضح الأسعد أن العالم بمعنى الوجود الواقعي والميتا واقعي بحاجة لاستعادة أنوثته.لقد أفقده الخراب الحاصل روحه الغضّة التي وهبته إياها طبيعته الخلّاقة التوليديّة، والشعر هو بشكل ما، محاولة لاستعادة هذه الرّوح المنهكة المثخنة بالاغتراب والتّشيؤ والمرارة.أما الشاعر السوري فهو نتاج ثقافي لبيئته المحطّمة ، وهو من أكثر المتضرّرين من خرابها الحاصل، نظراً لحساسيته العالية ولكنّه بالمحصلة ابن هذا الواقع المدمّر،الذي أودى بالكثيرين إلى حوافّ الجنون.!!ولذلك لا نستطيع  برأيه تحميله أكثر من استطاعته، فالنّقص الفادح هو محصلة لعوامل كثيرة تاريخية وحاضرة عصفت بكل الثوابت والركائز لذلك ما نحتاجه هو إعادة هيكلة للخراب بجهود هائلة، علّنا نستطيع ترميم  تلك التّهتّكات المزمنة التي أصابتْ النسيج الروحي الشخصي والمجتمعي والمؤسّساتي.وبالتالي نحنُ بحاجةٍ لجهود جبّارة من قبل الجميع لتسريع عجلة البناء الحقيقيّ وإعادتها إلى سكّة التّطوّر التاريخيّ.

أمينة عباس