ثقافة

دور النشر.. آراء وتحديات كيف واجهت دور النشر السورية الصعوبات التي فرضتها الأزمة؟!

يعانق الحرف حرفاً آخر بكل ما أوتي له من رصانة ومتانة لغوية ليغزل على ورقة بيضاء ما يحلو له من معان فيشكلها على هواه،  وينسج سطورها بنتاج مؤلِف أفنى عمره لخلق كلمات تختصر تجربته ورؤيته.. هكذا هو  فعل الكتابة يستهلك فاعله حتى الأقصى ويصبح  سعيداً حتى في فناءٍ يمنح كلماته الخلود، فمن رحم الألم يولد الإبداع، ومن عدم الاستقرار يحرَض الفكر، وبالمعرفة وحدها تنضج الأمم وتتجاوز عتبة المجهول إلى التغيير الحقيقي. والكتاب هو بوابة المعرفة وحارسها الأمين وبه نصنع الاختلاف والبصمة. فكيف تعاملت دور النشر  في ظل  الأزمة مع  هذا الحارس وما هي الآلية التي اعتمدتها ليبقى خير جليس، وما نوعية الطرح الفكري الذي انتهجته وهل لامست هموم المواطن السوري أغلفة  كتبها وعنونت الحياة اليومية بما تنشره، أم أنها أخذت مكان المتفرج ووقفت على الحياد دون أن يعتريها ألم الشارع أو يؤثر على طبيعة ما تنتجه.
ولم يعد خافياً أن ما نعيشه اليوم أثّر على قطاعات الحياة كلها، ودور النشر هي جزء لابد أن يطاله ما طال أي ركن من هذا المجتمع، ولكن هناك من يبقى ويستمر في الإنتاج وهناك من يجر أذيال خيبته ويتخلى عن وطنه في أكثر لحظات حاجته إليه، فما هي مفرزات الأزمة والصعوبات التي واجهتها دور النشر وكيف تمت مواجهتها هذا ما حاولت “البعث” رصده والوقوف عليه، ووقفتنا الأولى كانت مع دار رسلان للطباعة والنشر حيث حدثنا مديرها رسلان علاء الدين قائلاً: الأزمة أثرت على قطاع النشر بشكل عام وأغلب أصحابها توزعوا في الأقطار العربية وقلة قليلة بقيت في سورية ونحن منها، وتميزنا  بالمحافظة على وتيرة إنتاجنا، بل زدناها في الأزمة والسبب يعود إلى احتياطات تم اتخاذها في سنوات سابقة لاستمرارية العمل بشتى الظروف. وعلى الرغم من أن الأزمة أثرت على القطاع المعاشي وقدرة المواطن على الشراء والتنقل واستخدام الوسائط المعرفية، لكننا نحاول الاستمرار بنشاطاتنا الثقافية في أغلب الدول العربية، ولا نتخلف عن إنتاج الكتاب الجديد وطباعته بحلة قشيبة وتقديم الجديد من الفكر، لأن الحياة والعمل مستمران وعلينا أن نذلل هذه الصعوبات بمضاعفة الجهود.
ويرى مدير دار الفكر للطباعة والنشر صهيب الشريف أن الأزمة أفرزت مجموعة من الصعوبات أهمها أن القراءة أصبحت آخر هموم المواطن السوري، فالتوتر والقلق شغل العقول بالهم الوطني والمعيشي. وكان لانخفاض سعر صرف الليرة السورية أثره على ارتفاع أسعار مستلزمات الطباعة و أجور العاملين فيها وجعل دور النشر تقلل عدد إصداراتها السنوية للحد الأدنى، بالإضافة إلى صعوبة الوصول للمطبعة ومستودع  الكتب كونها في منطقة غير آمنة، ما أدى إلى توقف العمل بها لفترة طويلة، الأمر الذي دفع الفنيين للبحث عن عمل آخر أو الهجرة خارج القطر ولهذا توجهنا عند الضرورة للطباعة في لبنان رغم ارتفاع تكلفة الطباعة وارتفاع سعر الكتاب.

واقع مترد سبق الأزمة
ومن جهة أخرى يرى بعضهم أن الواقع الثقافي البائس سبق الأزمة بأشواط وهي بريئة من ترديه، وهذا ما رآه  مدير دار التكوين للطباعة والنشر سامي أحمد الذي اعتبر أن الأزمة  لم تؤثر على الثقافة وعمل دور النشر، لأن الواقع الذي تعانيه يعود لسنوات طويلة وليس وليد اليوم، فهناك خلل وأزمة في بنية النشر وفي دور النشر نفسها، فقد تحول معظم الناشرين إلى مجرد وسطاء بين المؤلف والمطبعة، ويقتصر همهم على مجرد تحقيق الأرباح، وهناك سوء  في توزيع الكتاب. كما أن المراكز الثقافية لا تعمل كما يجب والحراك الثقافي لم يكن كحاله في بقية الأقطار العربية، ومعارض الكتاب ليست بالمستوى المطلوب، ومع وجود بعض الكتب الجيدة التي قدمتها دور النشر لكن بشكل عام تحولت الثقافة إلى ثقافة استهلاك، فكتب الأبراج والطبخ هي الرائجة وتباع بأعداد كبيرة. أما الكتاب الفكري فلا مكان له، والسبب هو الهوة الكبيرة بين الإعلام السوري والكتاب فليس هناك برامج ثقافية في التلفزيون تشجع الناس على القراءة وتعرفهم بالإصدارات الجديدة. كذلك  يقتصر اهتمام الصحافة المكتوبة على نشر إصدار عن الكتب الجديدة فقط، بينما تغيب المقالات النقدية التي تقدم رؤية تعكس حقيقة الكتاب.

طبيعة الكتب المنتقاة
لكن السؤال الذي يفرض ذاته علينا، هل مازال الكتاب من أولويات المواطن السوري ضمن صيرورة الحياة اليومية التي تملؤها مشاغل وهموم شتى، وما هي الكتب التي تلاقي رواجاً في ظل ما نواجهه؟ وهل تختار دور النشر الكتب التي تستهوي القارئ؟ وعن هذا أجاب  علاء الدين: الثقافة بستان ورود يضم جميع الصنوف ولكل نوع من يتذوقه. ودار رسلان تطبع جميع أنواع الأدب والفنون، وكتب المتخصصين بمختلف فروع المعرفة  والكتاب الثقافي، وكتب الأطفال والروايات، خاصة وأن الرواية اليوم تلاقي اهتماماً أكبر مع أننا نرى إقبالاً على جميع منشوراتنا.
ويؤكد هذا الرأي الناشر سامي أحمد الذي يرى أن إقبال الناس أصبح بشكل أكبر على الروايات مع الابتعاد عن الكتب الفكرية، ورد الأسباب إلى حالة الفراغ الذي يشعر بها الناس بسبب الظروف التي نعيشها. وأضاف: إن بعض الروايات عملت على تأسيس فكري مهم على خلاف بعض الروايات الاستهلاكية والتي للأسف  يُقبل الناس عليها وتباع بأعداد كبيرة، بينما كان للناشر الشريف رأي مخالف فمن وجهة نظره تزايد الاهتمام سورياً وعربياً بالكتب السياسية والتي تعالج قضايا دينية وفلسفية من وجهة نظر معاصرة، لهذا راجت الكتب التي تتحدث عن العلمانية وعلاقة الدين بالدولة، وعن الديمقراطية وحقوق الإنسان ذلك أن الناس والشباب بشكل خاص يرغبون بمعرفة لماذا حدث ما حدث؟ وإلى أين نتجه؟وما المصير الذي ينتظرنا؟.

معايير الاختيار
وأما هذه الآراء التي بعضها يطمئن على حال الكتاب، وبعضها الآخر كان متأرجحاً كان لابد من الوقوف أمام المعايير التي اعتمدتها دور النشر في اختيارها للكتب التي تتم طباعتها والمؤلفين الذين ينشرون لهم، وقد أشار الشريف إلى أن هذه المعايير تختلف  بحسب موضوع الكتاب، فهناك لجنة تقرأ الكتب المقدمة للنشر وتنظر مدى مراعاتها المعايير المخصصة لكل موضوع، والتي منها مثلاً أن تكون معالجة موضوع الكتاب فيها أصالة وإضافة جديدة متطورة عن كتب سابقة عالجت الموضوع نفسه، وأن يكون المخطوط موثقاً بالمراجع والمصادر ومطلوباً من القراء ومكتوباً بلغة عربية سليمة ويراعي الروابط الدينية والقومية والوطنية، إضافة إلى ضرورة تخصص المؤلف بالموضوع الذي يعالجه. بينما اعتبر علاء الدين أنه على المؤلف أن يتمتع بهوية ثقافية وعلمية وأكاديمية تؤهله لتقديم مادة مميزة وتحمل قيمة مضافة للقارئ.
من جانبه قال  سامي أحمد: قبل الأزمة كنا نطبع بين 90 -95 عنواناً، لكننا الآن خففنا من كمية الطباعة وعدد النسخ، ونختار الكتب بعناية لأن 95 بالمئة منها تطبع على نفقة الدار وليس على نفقة المؤلف، وبعد أن نرى أن ماتم  تقديمه يحقق كشفاً بعيداً عن السطحية في الطرح مع الاعتدال وبأخلاق، نقبل نشره ثم نقوم بطباعته بعد قراءته وتدقيقه وإخضاعه للمعايير الفنية والمعرفية.

منع المشاركة في المعارض
وكما هو معروف المعارض هي الفضاء الرحب لعمل دور النشر، وهي النافذة الأوسع في التوجه إلى قرائها. لذلك تحرص دور النشر على المشاركة في معظم معارض الكتب وتسجيل بصمتها الخاصة، هذا في حال لم تواجه معوقات في المشاركة. وهذا ما أكده الشريف قائلاً: نحاول المشاركة في معظم المعارض العربية والدولية لكن دور النشر السورية واجهت مجموعة صعوبات بسبب الحرب التي يعيشها وطننا إذ منعت من المشاركة، أو لم ترسل تأشيرات الدخول إلا متأخرة وفات عليها العديد من المعارض وحرمت من تسويق الكتب وإيصالها للقارئ في ظل ضعف السوق الداخلية السورية بسبب الأزمة، كما حرمت معظم دور النشر من السيولة النقدية التي تمكنها من طبع الكتب الجديدة ما أضعف وضعها التنافسي مع دور الدول الأخرى. وهذا ما رآه أيضاً أحمد الذي اعتبر أن السفر أصبح شاقاً ويرتب تكاليف إضافية وأحياناً تتأخر الكتب عن الوصول بسبب الظروف وهناك بعض الدول التي تمنعنا من المشاركة.
أيضاً أكد الناشر علاء الدين أن المعرض الوحيد الذي لا نشارك فيه هو معرض الرياض بسبب وجود قرار سياسي بمنع مشاركة دور النشر السورية، وطالب بتحييد الثقافة والفكر عن النزاعات السياسية،  وبالنسبة للمعارض المحلية فلا توجد معارض محلية دائمة غير معرض مكتبة الأسد الذي توقف للسنة الثالثة على التوالي، مع حرصنا على إقامة معارض في الجامعات والمراكز الثقافية.

الكتاب الإلكتروني
ولأن الكتاب الورقي لم يعد الشكل الوحيد للكتاب بسبب منافسة الكتاب الإلكتروني له والذي أصبح  متاحاً أمام الجميع وإمكانية الحصول عليه أسهل. فكيف يقف الكتاب الورقي أمام المد الإلكتروني وما طبيعة التنافس القائم بينهما. وفي هذا المجال يرى علاء الدين  أن الكتاب الإلكتروني والورقي وجهان لعملة واحدة، وهما شكل من أشكال إنتاجنا للمعرفة وهناك جمهور كبير للكتاب الورقي، فالعملية التعليمية في كافة مراحلها تعتمد عليه. كما أن الكتاب الورقي يستخدم في أي مكان وفي أي ظروف وتربطه بالقارىء حالة حميمية وعاطفية. كذلك على الصعيد الأكاديمي البحوث الجادة  تشترط أن تكون النسبة الأكبر  من المراجع ورقية لأن الإلكترونية لا تحمل المصداقية الكافية، وأنا لست في إطار الدفاع عن أي من النوعين فهما شكلان متلازمان لإنتاج المعرفة وكتبنا متاحة للتسويق الإلكتروني. بينما رأى الشريف أن الكتاب الإلكتروني الذي يباع عن طريق المتاجر الإلكترونية يساعد على انتشار وترويج الكتاب الورقي ووصوله للقارئ بيسر وسهولة عن طريق شحنه بالبريد الإلكتروني بسعر مخفض، لهذا يمكن للكتاب الإلكتروني أن يوصل الكتاب العربي لأي دولة في العالم ويساعد على حل مشاكل توزيع الكتاب. لكن الذي يؤثر سلباً على مهنة النشر هو الكتاب المقرصن الذي تسطو عليه بعض المواقع الإلكترونية وتجعله مباحاً على الإنترنت مخالفة بذلك كل القوانين والأعراف الأخلاقية ومتجاهلة حقوق التأليف والنشر.
من جانبه اعتبر أحمد أن ملمس وحميمية الورق سيبقى جزءاً هاماً من تراثنا وأعتقد أن الكتاب الإلكتروني ليس إلا موجة كالعولمة وسواها. وأنا شخصياً مع طباعة الكتب الورقية وإقامة الندوات حولها. وهذا لايعني أنني لست مع وجود الكتاب الإلكتروني لكن لا غنى عن الورقي لأنه أساس الكتاب الإلكتروني الذي يمكن أن يكون عاملاً مساعداً للكتاب المطبوع بسبب سهولة تداوله وأسعاره الأقل، لكنه لن يكون بديلاً عن الكتاب المطبوع أبدأ.

تقديم الدعم الكامل
ومما لا شك فيه أن الأزمة التي تمر بها البلاد أرخت بكاهلها على العديد من الأنشطة الثقافية كغيرها من الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ولكن هناك أموراً ومواضيع لا بد من تقديم كامل الدعم المادي والمعنوي لها، ففي زمن بتنا نرى فيه كيف تحولت الثقافة السورية الجامعة لكل السوريين إلى حالات ثقافية انتقائية لا تعكس بشكل أو بآخر إلا الشيء اليسير من تطلعات القارئ السوري الذي صار اهتمامه موجهاً نحو معرفة أسباب وجذور الأزمة التي يعيش تحت وطأتها، هنا نتساءل: هل قدمت هذه الدور الخاصة منها والعامة ما يهم القارئ بشكل فعال؟ أم أنها بقيت تتطلع إلى تحقيق المكاسب المادية على حساب جودة ما يقدم، مع أهمية التركيز على  ضرورة إقامة معارض مستمرة تقوم بمهمة تسويق الكتب إلى القارئ؟، ويجب أن نشير إلى أمر آخر وهو أنه لابد أن تتخطى الثقافة والمعرفة كل الحدود السياسية وتترفع عن جميع النزاعات لتساهم في صناعة الإنسان الواعي القادر على تكوين رأي حر ومعتدل، ولكي تبقى الثقافة عالماً مستقلاً ومفتوحاً لا يعرف أي حدود.
لوردا فوزي