المسرح والتأصيل المسرحي السوري
علاقة المسرح بشكل عام ومنذ نشأته كانت ولا تزال مرتبطة بالمتلقي ومن دونه لن يكون لأي فن من الفنون وبشكل خاص المسرح باعتباره فن تفاعلي بين ما يقدم على الخشبة وبين ما يصل للجمهور الجالس في الجهة المقابلة، لن يكون له أي دور يضطلع به أو شأن يحاول الإبداع لإعلائه دون وجود الجمهور.
منذ مسرحيات اسخيليوس كان دور المتلقي واضحاً في إنجاح هذه العملية التفاعلية وقد عبّر «أرسطو»في كتابه (فن الشعر)عن ذلك من خلال طرحه لمفهوم (التطهير) بوصفه تعبيراً واضحاً عن عمق العلاقة بين المسرح والجمهور.
في سورية ومنذ انطلاق مسرح «أبي خليل القباني»في باكورة أعماله المسرحية «ناكر الجميل»العرض المسرحي الأول الذي عُرض في خان أسعد باشا في «البزورية»أواخر القرن التاسع عشر،عمل هذا المسرحي السوري الأصيل، جاهداً إلى إشراك المتفرج العمومي إن صح التعبير(حينها لم تكن مفردة «النخبة» من مفردات القاموس المسرحي القباني وما سبقه من أعمال شبه مسرحية، كخيال الظل وكركوز وعواظ)بمجريات العرض المسرحي،بغية الوصول إلى صيغة فريدة، تجعل من تلك الكتلة الصلبة والصماء إلا ما ندر، شريكاً حقيقياً في صياغة هذه الفرجة وجعلها اقرب إلى الذوق العام، من خلال أعمال قدمها صاحب أغنية«يا مال الشام» هدفت إلى تقديم هموم الإنسان البسيط، وعكسها بمرآة «أنا وأنت شركاء في الهم» رغم الطابع الغنائي والفكاهي الذي غلب على جل أعماله ومنها: (هارون الرشيد) و(عايده) و(الشاه محمود) و(أنس الجليس)بطريقة قريبة من ذهن الإنسان البسيط وهمومه،أقنعت متلقيها بمصداقيتها الإنسانية، أكثر من كونها عملية تمثيلية، حتى إن الجمهور وفي كثير من الأحيان قام بالمشاركة بشكل لا إرادي في مجريات العرض المسرحي، وثمة طرفة وقعت أثناء تقديم أحد عروض «أبي خليل» وهو عرض «الشاه محمود»، حيث يحكى عن متفرج متحمس كان يتابع ذلك العرض، فما كان منه إلا أن انبرى وهم بالصعود إلى الخشبة،لمعاقبة إحدى شخصيات العرض، التي شخّصت دور تاجر جشع، يذل أجيره، أمام مرأى الناس، ولم يستطع الكاست إنزال ذاك المنفعل عن الخشبة، والشرح له أن ما يقومون به هو مجرد تمثيل، إلا بشق الأنفس.
لم يكن وقتها “أبي خليل” يعرف ب «ستانسلافسكي» الذي يرى أن التمثيل غريزة إنسانية عامة، والشيء الرئيس لا يكمن في الفعل ذاته بل في نشأة الميل إلى الفعل نشأة طبيعية، وأن يكون هذا الميل أو الحافز مركباً وسهل التطويع في الوقت ذاته.
لم تكن لتغيب ظاهرة المتلقي وأثره البالغ الأهمية عن وفكر رواد المسرح السوري وصناعه ، فهاهو «سعد الله ونوس» الذي رفع شعار «على المسرح أن يذهب إلى الحياة» عندما أسس والمخرج «علاء الدين كوكش» فرقة المسرح الجوّال عام 1971، مقدمة عروضها في القرى والساحات العامة، وكانت لوحات مستوحاة من حياة الناس وهمومهم وخلال سنة قدمت الفرقة حوالي عشرة عروض في أماكن مختلفة، حيث استهدف صاحب (سهرة مع أبو خليل القباني)، كذلك التأثير في جمهور عروضه، متبنياً في رؤيته الإخراجية مسرح التسييس الذي كان يرتكز بدوره على مجموعة من الوسائط الفنية والجمالية كالمادية الجدلية والمسرح البريختي والتغريب، وكانت كل هذه الوسائل من أجل تنوير الجمهور وتوعيتهم ودفعهم إلى التغيير.
إلا أن مهمة شاقة تقع على عاتق هذا المتفرج باعتباره الجزء الشريك الأهم في أي عرض مسرحي، إذ ينبغي عليه أن يغير طريقة تعاطيه أو فكرته المسبوقة عن هذا الفن النبيل، الذي لا يزال يعاني من تعرضه لشتى المضايقات الأيديولوجية، بدءاً بالتابوهات المحرمة السياسية والدينية المغلوطة، التي فعلت ما فعلت بمؤسس المسرح السوري «القباني» عندما اضطر إلى الاستعانة بصبية لأداء دور الإناث في بداياته المسرحية،الأمر الذي استنكره مشايخ ذلك الزمان وكل زمان فشكوه لوالي دمشق لينتهي الأمر بحرق مسرحه وهجره لديار الشام إلى مصر، مروراً بازدواجية المعايير عند الرقيب ومزاجيته الوظيفية البحتة، وليس انتهاء بسوء الفهم العجيب لدور المسرح الجاد وأهميته في مخاطبة الوجدان الجمعي لشرائح المجتمع كلها، بعد أن خُربت ذائقته الجمالية والثقافية بفعل عوامل عدة، كان للمسرح النخبوي بنصوصه المستوردة، بهاملتها وعطيلها وعنبها الحامض ومغنيتها الصلعاء، وغيرها من النصوص العالمية، غير المشغول بدراية على إعدادها بما يلاءم واقعنا وطبيعتنا وخصوصيتنا الاجتماعية والأخلاقية، الدور الأبرز في القطيعة الحاصلة بين الجمهور وخشبة المسرح التي نُظر إليها في فترة من الفترات على أنها أماكن وجود «المختلين عقليا»، وذلك لوجود نظرة عامة للمسرح، قوامها انه مكان للترفيه والضحك أكثر منه منبراً وفسحة للمعرفة الثقافية المختلفة عما هو سائد، وبالطبع لا نغفل هنا عن الدور السلبي الذي لعبه المسرح التجاري الاستهلاكي المبتذل، عندما استهدف دغدغة عواطف المتفرج وترفيهه فنياً بكوميديات ساخرة وتسلية هزلية، عدا عن الكاريكاتورية المملة والملاهي الاستعراضية السمجة، باعتمادها النكتة البذيئة والكلام الفاحش، بديلاً عن الحوار، وهز الخصور المدفونة تحت أكوام من اللحم المترهل، لراقصات من الدرجة العاشرة «هذا إذا اعتبرنا أن ثمة تصنيفاً يقبل احتواءها»، بدل الرقص الاستعراضي الأكاديمي، الموجود ضمن خطة العمل المسرحي كجزء أساس من العرض، لا كشيء فائض عن الحاجة.
جاءت النقلة النوعية للمسرح الجاد المعني بالمتلقي العمومي في المقام الأول، في سورية بعد العديد من الخطوات المهمة التي أنضجت دور هذا المسرح وأهميته التنويرية الفكرية، ومنها تأسيس «ندوة الفكر والفن» 1959 بإشراف د.رفيق الصبان العائد حديثاً من فرنسا، وقد ضمت أهم وجوه الفن والثقافة في دمشق وقتذاك. وفي عام 1960 تأسست فرقة المسرح القومي التابعة لوزارة الثقافة، وضمت معظم العاملين في الفرق الخاصة والأندية والجمعيات، ومنهم أهم نجوم الكوميديا مثل عبد اللطيف فتحي وسعد الدين بقدونس ثم اندمجت «ندوة الفكر والفن» عام 1963 مع فرقة المسرح القومي الرسمية، فتشكلت بذلك نواة النهوض المسرحي الجديد الموجه ثقافياً والمموّل رسمياً. وكانت هذه النقلة على يد المخرج المسرحي الكبير «فواز الساجر» الذي أسس بعدئذ في دمشق مع سعد الله ونوس «المسرح التجريبي» عام 1976، أي في العام نفسه الذي استقبل فيه المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق أول دفعة من طلبته في قسم التمثيل، وهو العام نفسه الذي أسست فيه مجلة «الحياة المسرحية» في وزارة الثقافة بإشراف الكاتب ونوس والناقد نبيل الحفار.
إذاً سعى المسرح السوري الجاد إلى تغيير نظرة المجتمع لأقدم أنواع الفنون قاطبة، عندما عمل على جعل المتفرج محور اهتماماته وعدّه عنصراً فعالاً وشخصاً محتفلاً يشارك في ارتجال العرض وبنائه من جديد والمساهمة فيه بتدخلاته وإبداء آرائه والدخول في حلبة التمسرح عبر تكسير الخط الفاصل والجدار الواهم للمشاركة بعرضه المنطوق ولغته الجسدية وتمثيله اللعبي، وهو ما يحسب للمسرح السوري من دون غيره من المسارح العربية الجادة على قلتها.
تمام علي بركات