في كتاب القصة القصيرة الروسية الساخرة السخرية فن شعبيّ قريب من الجماهير
حين تلامس الجرح وتظهر العيب وأنت ترسم الابتسامة على وجه القارئ باستخدام ألفاظ تجعله يضحك فأنت تسخر.. وحين يضحك الموجوع من ألمه ويعيش واقعه بضحكة تخفف عنه آلامه ويضع حلولاً ولو في الأحلام فهو يسخر.. وحين نعبّر عن حالة رفض للواقع دون الاصطدام أو خلق مواجهة مباشرة مع السلطة فنحن نسخر.. بهذه الكلمات قدم د.نزار عيون السود لكتابه المترجم الصادر حديثاً عن الهيئة العامة للكتاب في وزارة الثقافة تحت عنوان “القصة القصيرة الروسية الساخرة” .
سلاح الضعيف
ويبيّن د.عيون السود في الكتاب أن للفن الساخر أصوله وقواعده الكتابية، فمن حيث المضمون يتسع هذا الأدب لنقد أي موضوع من مواضيع الحياة العامة أو الخاصة كالمواضيع السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وبالتالي فمجاله واسع بلا حدود، مشيراً إلى أن السخرية فن شعبيّ قريب من الجماهير، ومواضيعها من صميم حياتهم وهمومهم واهتماماتهم، وهو سلاح الضعيف لمواجهة النفاق والفساد، ولذلك فإن السخرية والفكاهة برأيه فن أصيل وأدب عريق التقاليد والجذور لدى جميع الشعوب، وقد حظي هذا الأدب الساخر بتقدير عديد من النقاد والأدباء والفلاسفة، ففي معالجته لهذا الموضوع أشار هيغل في كتابه “علم المنطق” إلى أن “السخرية تمسك بالتناقض وتجسده وتعبّر عنه وتقارن الظواهر المتناقضة بعضها ببعض وتوضح المفاهيم وتلقي الأضواء عليها من خلال تناقضاتها”.
ويوضح د.عيون السود أن ثمة علامة فارقة تميز الآداب عامة، والأدب الروسيّ خاصة وهي ازدهار الأدب الساخر في المراحل الانتقالية الصعبة التي تمر بها المجتمعات، ولذلك انتشر انتشاراً واسعاً في السنوات العشر الأولى التي أعقبت ثورة أكتوبر عام 1979 وفي أعقاب (البيريسترويكا) وانهيار الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولعلّ أصدق دليل على ازدهار هذا الأدب في المراحل المذكورة برأيه صدور الأعداد الكبيرة من المجلات الساخرة والفكاهية فيها، منوهاً د.عيون السود بأنه ورغم انتشار الأدب الساخر في الأجناس الأدبية المختلفة (الرواية-المسرحية-القصة-القصة القصيرة.. إلخ) لكنه كان أكثر انتشاراً وتركيزاً في أدب القصة القصيرة، حيث كانت القصة الساخرة الضاحكة تجسيداً حيّاً للأفكار والملاحظات الانتقادية والفكاهية الساخرة التي تعبّر عن الصراع الاجتماعيّ.
تقاليد أدبية ساخرة
ويشير د.عيون السود إلى أنه وفي المرحلة الأولى (العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين) اعتمد الأدب الروسيّ الساخر على تراث عريق غنيّ تمثّل من ناحية أولى في الفولكلور الروسيّ والإبداع الشفويّ الشعبيّ العريق، وفي التقاليد الأدبية الكلاسيكية الساخرة عميقة الجذور في الأدب الروسيّ والتي تجسدت على أروع وجه في أعمال ومؤلَّفات غوغول وسالتيكوف-شدرين وتشيخوف من ناحية ثانية، أما في المرحلة الثانية (الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين) فقد ارتكز الأدب الروسيّ الساخر إلى تراثه السابق والمنجزات الأدبية السوفييتية من ناحية، وإلى منجزات الأدب العالمي الساخر الذي تُرجِم عن اللغات الأخرى إلى الروسية من ناحية أخرى.. من هنا اختار د.عيون السود في هذا الكتاب للمرحلة الأولى نماذج من أفضل القصص القصيرة الروسية الساخرة الفكاهية، الأقرب إلى فهم القارئ العربيّ لأبرز الكتّاب الروس الساخرين في العشرينيات والثلاثينيات وهم: ميخائيل زوشينكو-بوريس سمسونوف-ليبيديف كوماتش-ليف نيكولين-سيرغي زاياتسكي-ميخائيل كوزيروف-ميخائيل بولغاكوف-بانتيليمون رومانوف-إيلف بتروف، في حين اختار مجموعة أخرى هامة ومعروفة من القصص القصيرة الساخرة لأفضل كتّاب الأدب الروسيّ الساخر في فترة الثمانينيات والتسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين هذه الفترة مثل: ميخائيل جفانيتسكي-ميخائيل زادورنوف-سيميون التوف-فيكتور كوكليوشكين-غريغوري غرين-أركادي أركانوف.. وغيرهم.. وينوه د.عيون السود بأن فترة الثلاثينيات لم تكن مناسبة لازدهار الأدب الساخر، فقد تمّ إغلاق القسم الأكبر من المجلات الأدبية الساخرة عام 1931 كما بدأ النقاد بالتشهير بالأدب الساخر والأدباء الساخرين وعملوا على طمس أسمائهم وتلفيق الاتهامات المختلفة ضدهم.
أما فترة الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين فقد شهدت موقفاً إيديولوجياً مغايراً من الأدب والثقافة، منفتحاً على جميع الأجناس الأدبية ورفع الحظر عن جميع رجالات الأدب والثقافة، كما ازدهر الأدب الساخر ازدهاراً كبيراً وبرزت أسماء هامة من الأدباء الساخرين مثل ميخائيل جفانيتسكي-ميخائيل زادورنوف-فيكتور كلوكليوشكين-غريغوري غرين-أركادي أركانوف-سيمون آلتوف.
أمينة عباس