ثقافة

أمين معلوف..لا أحد يحتكر التطرف

يقرّ أمين معلوف في خاتمة كتابه “الهويات القاتلة” أنه ليس كتاباً ترفيهياً ولا عملاً أدبياً، ويتمنى كما أورد “أن يكتشفه حفيدي يوماً وقد أصبح راشداً، بالصدفة في مكتبة العائلة فيتصفحه ويقرأ بعض صفحاته ثم يعيده فوراً إلى الرف المليء بالغبار حيث تناوله، مستخفاً ومندهشاً للحاجة إلى قول هذه الأمور في الزمن الذي عاش فيه جده”. ويحلم معلوف أن يأتي وقت يكون فيه تناول قضايا الهوية والانتماء نوعاً من السخف، فتتأفف الأجيال القادمة من قراءة كتاب يتناول قضية هي من أهم القضايا في زمننا الحاضر.
في مقدمة دراسته هذه يحاول الإجابة على سؤال طالما وجه إليه حول الهوية التي ينتمي إليها، أهي هوية بلده الأصل لبنان أم أنها هوية البلد الذي هاجر إليه وهو في سن الشباب “فرنسا”. ويتساءل هل هو نصف فرنسي، وبالتالي نصف لبناني، ثم يجيب نفسه والآخرين أن الهوية لا تتجزأ ولا تتوزع مناصفة أو مثالثة، ويكمل: “أنا لا أملك هويات متعددة بل هوية واحدة مؤلفة من العناصر التي صنعتها وفقاً لجرعة خاصة لا تتطابق بين شخص وآخر”. وعندما يصر البعض على الغوص عميقاً يفهم أن المطلوب منه تحديد انتمائه الديني والطائفي أو العرقي وهذا بالتحديد ما يرفضه معلوف المفكرالمنفتح على ثقافات العالم المتنوعة والذي بأسلوب تفكيره الحر والإنساني يرى أن هذه الهوية التي ينتمي إليها تتجاوز اللبناني أو الفرنسي وتتجاوز تلك العناصر التي ترد عادة في السجلات الرسمية.

هويتي انتماءاتي
توتره كلمة الهوية ويراها من الكلمات الأكثر شفافية التي غالباً ما تكون أكثرها خيانة ومضللة، ويسوق في هذا الجزء من كتابه المثال تلو المثال كبراهين تجعله يشدد على أن هوية الإنسان غير ثابتة، وأنها تتحول مع الوقت محدثة في السلوك البشري تغييرات عميقة، والظروف المتبدلة سواء كانت سياسية كتفكك البلدان، أو اجتماعية كالزواج المختلط، يمكنها أن تحدث تبدلاً كبيراً في هوية الأفراد. ثم يتناول هذا الهم الذي غالباً ما يواجه من يعيش في بلد غير بلده الأصلي، ليبقى سؤال الهوية عائقاً كبيراً في حياته على الدوام، فهو مشتت بين الانعزال والتقوقع بعيداً عن مجتمعه الجديد والانحياز الفطري إليه وبين الاندماج والقبول بقوانين وأعراف البلد المضيف.
هذا السؤال يدفع بالكاتب إلى ما سماه امتحان هويته، هو الذي ولد في لبنان لأسرة تعود في أصولها إلى الجزيرة العربية، وانتشرت في بقاع الأرض من مصر إلى البرازيل ومن كوبا إلى استراليا، مسيحياً بلغة عربية هي لغة القرآن، يتأمل في هذه العناصر كلها مصوباً على عنصرين أساسيين هما اللغة والدين، يقول في الصفحة 29: “أشعر بنفسي وأنا أتناول هذين العنصرين من هويتي كلاً منهما على حدة، أنني قريب، إما باللغة أو بالدين، من نصف البشرية، كما أجد نفسي في مواجهة خصوصيتي، إذ أنظر إلى هذين المعيارين معاً”.

عندما تأتي الحداثة من الآخر
“وكأنه ينظر إلى المشهد الآن” يتساءل معلوف في بداية القسم الثاني من كتابه مستهجناً: “لمَ كل هذه الأحجبة والأنقبة واللحى الكئيبة ونداءات الموت؟ لماذا كل مظاهر السلفية والعنف تلك؟ هل هي من طبيعة هذه المجتمعات وثقافتها وديانتها؟ هل الإسلام لا ينسجم مع الحرية والديمقراطية، مع حقوق الرجل والمرأة، مع الحداثة”؟ ومن خلال بعض الأمثلة التبسيطية يصل إلى نتيجة أنه: “مهما غصنا في بطون الكتب المقدسة ورجعنا إلى كلام الفقهاء وأقمنا الحجج والبراهين سوف تبقى هنالك دوماً تفسيرات مختلفة ومتناقضة. واستناداً إلى الكتب المقدسة نفسها يقول: “يمكننا القبول بالرق أو إدانته، تقديس الأيقونات أو حرقها، تحريم الخمرة أو تحليلها، المناداة بالديموقراطية أو الثيوقراطية” ص 71. ولذا فهو لا يرى جدوى من التساؤل حول ما تقوله المسيحية والإسلام أو الماركسية وليس علينا دراسة جوهر العقيدة وإنما قراءة سلوكيات الذين يدينون بها عبر التاريخ. وهو يؤمن أن جميع العقائد يمكن أن تنحرف عما رسم لها من أهداف ويشوبها الفساد وتقوم بسفك الدماء، من الشيوعية والليبرالية والقومية وكل ديانة من الديانات الكبرى، حتى العلمانية،  وأن لا أحد يحتكر التطرف ولا أحد يحتكر النزعة الإنسانية. لكنه بالمقابل وفي دراسة مقارنة لمسار العالمين المسيحي والإسلامي تصيبه الخيبة ويؤرقه السؤال: “لماذا استطاع الغرب المسيحي الذي عرف تاريخاً طويلاً من التشدد وعجز دائماً عن التعايش مع “الآخر” أن يولد مجتمعات تحترم حرية التعبير في حين أن العالم الإسلامي الذي طالما مارس التسامح، يبدو اليوم معقلاً للتطرف الديني”. ويرى أن هناك تغييراً طرأ على الدين بيد أبنائه، وكل بطريقته سواء الغرب أو العالم الإسلامي.
ويتوقف معلوف عن الغوص أعمق في حديثه عن الدين ذاته كي يعود إلى فكرته الأساسية بأن: “المجتمع يصنع الدين الذي بدوره يصنع المجتمع” وهنا ينتقد الرؤية التي يحمل فيها البعض المسؤولية للإسلام عن كل المآسي التي عرفتها المجتمعات المسلمة، ذلك أنها رؤية تجعل أحداث العالم مسألة غير مفهومة على الإطلاق.

زمن القبائل الكونية
هنا يتطرق “معلوف” إلى أسئلة يعتبرها أسئلة حقيقية تتجاوز المفردات كالبيئة الفكرية أو المناخ العاطفي وغيرها مِثلَ: “ما الذي يجعل النساء والرجال من كل الأعراق في العالم يكتشفون من جديد انتماءهم الديني اليوم بينما كانوا يفضلون منذ بضع سنوات التشديد على انتماءاتهم الأخرى”. ويرد ذلك إلى أفول وانهيار العالم الشيوعي الذي كان له دور حاسم في هذا التغيير وسبب صعوداً متنامياً للظاهرة الدينية، مؤكداً أن هذا الانهيار أرخى وسوف يرخي بثقله على السجال الفكري والسياسي لزمن طويل، إلا أن هنالك أسباباً أخرى جعلت الناس ترتد إلى البحث عن انتماء ديني، ألا وهو أن الغرب المنتصر في هذا الصراع الأيديولوجي، والذي هيمن على بقاع واسعة من قارات العالم، وقع في أزمة لم يستطع حلها، وهي أنه وقف عاجزاً أمام مشكلة الفقر في مدنه نفسها ولم يقدر على مكافحة البطالة والجريمة والمخدرات وغيرها من الآفات العديدة، وهي مفارقة كبيرة باعتباره النموذج الأكثر جاذبية واستقطاباً. ويضيف صاحب رواية “سمرقند” و”ليون الإفريقي” إلى هذين العاملين عاملاً هاماً كان له الدور الكبير، وشكل محرضاً أكبر في احتدام الصراع، ألا وهو العولمة التي سعت إلى طبع هذا العالم بثقافة واحدة رتيبة لا يراها محقة، منتقداً في الوقت نفسه الانغلاق والتخوف من الثقافات المختلفة.
في مواجهة هذه العوامل يرى “معلوف” أن الحل يأتي عبر تجاوز الانتماء الديني، وهو لايعني أن يتم تجاوز الدين، بل أن لا يكون الدين هو لحمة المجموعات الإثنية المتناحرة، يقول: “لا أحلم بعالم لامكان فيه للدين، بل بعالم تنفصل فيه الحاجة الروحانية عن الحاجة إلى الانتماء” ويستطرد موضحاً: “لا يكفي فصل الدين عن الدولة بل يجب كذلك فصل الديني عن الانتمائي، فإذا ما أردنا تحديداً ألا يستمر هذا الخلط في تأجيج التطرف والإرهاب والحروب الإثنية، يجب العمل على إشباع الحاجة إلى تأكيد الهوية بصورة أخرى”. ص 136.

ترويض الفهد
لم تأت تسمية هذا الجزء عبثاً، بل اختارها الكاتب دلالة على أن الصعوبة في تغيير الهوية هي ذاتها في ترويض الفهود. ذلك أن ما دعوناها بالعولمة تسلك في مسيرتها مسلكاً أحادياً يقسم هذا العالم بين نزعتين “الهيمنة ونقيضها الغيظ” كما يقول، وأما الذين وقعوا أسرى الغيظ فإن ردة فعلهم بالتقوقع والعدائية في وجه ما اعتبر اعتداء على الخصوصية، أكثر تدميراً عليهم من الاعتداء ذاته”.ويخلص إلى تساؤل ونتيجة أن: “من يملك العالم؟ لا عرق ولا أمة تحديداً. فالعالم ملك لكل الذين يريدون أن يجدوا موقعاً فيه أكثر من أي وقت مضى، وملك للذين يسعون إلى استيعاب القواعد الجديدة للّعبة- مهما كانت محيرة- لخدمة مصالحهم”.
تساؤلات كثيرة وإجابات عديدة، طروحات وشروح للديموقراطية برؤية مبسطة جميلة  وعادلة لينتهي بنا أمين رشدي معلوف، الذي درس الاقتصاد وعمل في الصحافة اللبنانية والفرنسية، إلى خلاصة بأن الإنسان لا يعطى الهوية مرة واحدة تستمر معه إلى الأبد، فهي تتجدد وتتبدل تبعاً للمتغيرات الأساسية في حياته، وبالرغم من الظروف المتبدلة لابد للفرد من اتخاذ موقف منفتح على الآخر وفي الوقت ذاته منسجم مع نفسه ومكونات انتمائه المختلفة.
بشرى الحكيم