ثقافة

تشارلي شابلن على الورق.. الفقر خير معلم

“والدي تشارلي شابلن” كتاب شيق من إصدار وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما، عن حياة الفنان الأكثر تأثيراً والأكثر دهشة في عالم الفن السابع “تشارلي شابلن”.
الكتاب الذي خطه كسرد حميم للذاكرة “تشارلز شابلن” الابن وترجمه أكرم الحمصي، جاء بمثابة رحلة ممتعة في عوالم “الرجل الصغير” الذي شغل الدنيا وملأ الناس، حيث لن تبدأ هذه الرحلة المخطوطة بحبر الذاكرة عند بداية “شابلن” بالاشتغال بالسينما، كما أنها لن تنتهي بموته الجسدي، فحكايات كثيرة وقصص لم تكن معلومة عن تلك الشخصية المضحكة والمثيرة للشفقة كما بدت في شاشة السينما، سيرويها “شابلن جونيور” عن حياة  والده وما تخللها من تفاصيل متعلقة بشخصيته تلك التي لطالما بقيت خلف الكاميرا.
شخصية الرجل الذي ظل مصراً بعناد لا يكل على أن السينما الناطقة ليست من الفن بشيء، فالمتعة التي تقدمها السينما الصامتة هي متعة كاملة الدسم، لا يضعف من رهافتها وصراحتها وإيحائها حوار يأخذ من جهد الممثل، في الوقت الذي يجب عليه أن يصرفه حتى آخر نقطة في الأداء الإيمائي، معتمداً دائماً على سيناريو متين الحبك، جلس “شابلن” سنوات يعده ويكتبه ويشرحه ويتأمله لكل فيلم بفيلمه، حتى صارت تلك الأفلام، تحفاً عالمية يحتفي بها العالم بأسره وتستعيدها الشاشات الفضية بين الحين والآخر، إما كفاصل ترفيهي، أو كمثال حي عن طبيعة فن السينما وأدوات نجاحه وديمومته، فهنا لن يسمح “شابلن” للغة أن تكون عائقاً أمام من يريد أن يتواصل معهم في العالم، لإدراكه العميق بأن اللغة هوية وهذه الهوية ببساطة يمكن أن تكون مرفوضة في المنقلب الآخر من العالم، في حين سعى صاحب القبعة الصغيرة والشارب المضحك لأن يصبح أيقونة عالمية في السينما وفي الحياة، وهذا ما حدث.
“بما أنني الرضيع الأول الذي كان لوالدي قدر وثيق من التماس معه، فقد اعتبرني رمزاً للبيت الأسري وللحياة المنزلية ولكل ما افتقده في طفولته. وهو أمر عليكم أن تدركوه إن رغبتم في فهم والدي” يقول تشارلز جونيور في بداية روايته لتفاصيل تلك الذكريات التي جمعته بوالده، ليعبر منها إلى حياة “شابلن” تلك التي بدأت تعيسة وبائسة، حيث تميزت طفولة “تشارلي شابلن” بالبرودة منذ البداية وكان الجوع والبرد من الأحاسيس التي لازمته طوال حياته.
مراهقة تتفتح آلامها في الميتم الذي وضعت أم  تشارلي ولدها فيه: “كان النظام المعمول به في الميتم قاسياً فكان الأطفال الموجودون فيه جائعين ويعانون من البرد باستمرار، كما كانوا يعاملون كالمجرمين كونهم فقراء” يتابع تشارلي جونيور سرده المتقطع لذاكرة سمعها وقرأها في حياة والده عن الحياة القاسية التي خاضها ذلك الرجل الضئيل الحجم، لتصبح تلك القسوة فيما بعد واحدة من الحوافز التي حفرت بقحف دماغ الكاتب والممثل والمخرج، ليصنع من ذكراها الخام، أفلاماً عصية على البلاء، بعد أن أدرك الفتى أن الفقر خير معلم.  بدأت حياة شابلن الفنية على خشبة المسرح حيث عمل والداه، فقدم أدواراً كوميدية صغيرة أو راقصة في عروض “الفودفيل” أحد المسارح التي عمل بها، لينضم بعدها إلى فرقة “غلمان لانكشاير الثمانية” حيث ذهبت تلم الفرقة بعروضها في جولات طويلة شمال انكلترا، إلا أن تلك الفترة كانت أيضاً من الفترات القاسية التي عانى منها “شابلن” في بلدات موحشة يخيم عليها البرد والرطوبة وشجارات السكارى: “كان ينكمش على نفسه بسبب ليالي الوحدة الطويلة تلك في غرفة صغيرة وباردة افتقد فيها “تشارلي”حرارة المنزل ومعنى الأسرة”.
يتابع شارلي جونيور الحديث عن الفترة المبكرة التي بدأ فيها الألم بصياغة موهبة فذة، ستنحفر في الذاكرة إطلالتها البائسة بالزي والهيئة التي ظهر بها شابلن، لترافقه تلك القبعة الصغيرة والسروال الواسع والحذاء الضخم والعصا التي حملها وجعلها واحدة من مفرداته الشخصية الاستعمال حتى في الإيماء في كل أفلامه، ولتصبح هذه الشخصية بزيها الرث والساخر واحدة من أكثر الشخصيات السينمائية تأثيراً وإثارة للإعجاب في تاريخ السينما. في كتاب “والدي تشارلي شابلن” سنتعرف أيضاً إلى الكيفية التي نظر بها “شابلن إلى السينما بأدواتها المختلفة، فالرجل بقي متشبثاً بعناد بأن السينما الصامتة هي الأقدر على الولوج على دواخل الناس، على عكس السينما الناطقة المعنية أكثر بالاعتبارات التجارية: “الفيلم الصامت وحده هو ما يمثل الفن السينمائي الحقيقي وأن القيمة الفنية تتضاءل باضطراد مع كل نقص في استخدام المخيلة.
كما سنعرف أيضاً السر الذي يكمن خلف نجاح الكوميديا برأي “شابلن” حيث يتابع شابلن جونيور بإسهاب نقله الأمين لآراء والده في الفن: “يمكن استخدام ما هو غير متوقع لانتزاع الضحك لكن القفشة التي تنجح بالتأكيد هي تلك التي يعرفها الجمهور، وهذا ما يجعلني أعشق القفشات القديمة، لكن ما يجب القلق بشأنه حول تلك القفشات التي تكررت في السينما كثيراً هو أسلوب أداء القفشة بحد ذاته”.
سيمر الكتاب على الكثير من التفاصيل الخاصة والعامة التي حكمت عالم “تشارلي شابلن” الساحر في الحياة كما في السينما، فالرجل الذي جعل الأمريكيين يتهافتون لتوقيع عقود الإنتاج معه بعد أن رفضوا استقباله لاعتقادهم بأنه شيوعي، يرى أن فن السينما هو فن الحياة، هو ذلك المشهد المستمر في الجريان لحياة العالم، أما المبدع فوحده من يعرف كيف يحوّل حتى الأسى والحزن إلى بهجة ومسرة.
تمام علي بركات