ثقافة

بعد رحيله الهادىء صباح قباني.. حقل من الياسمين الشاميّ في زجاجة عطر

حين تخط الأديبة السورية غادة السمان كلماتها على غلاف كتابه “من أوراق العمر” تكتب: “نكتشف في مذكرات صباح قباني أديباً بنثر مرهَف سلس جذاب ولغة شعرية راقية مسكونة بالحنين دون حزن، يحاول إبهاج قارئه بكثير من خفة الظل في زمن ثقيل الظل، وهي مذكرات تستعصي على التلخيص لأن صاحبها قام بذلك وهو يخطها كمن يقطر حقلاً من الياسمين الشامي في زجاجة عطر”.. لن يستغرب كل من يعرف قباني, وهو مَن يجيد فن الحكاية التي يسردها بعبارة رشيقة نابعة من قلب ينبض بالحب والحياة, لأنه كان ثمرة من الثمار العذبة التي ازدهرت بها شجرة والد عظيم كان رائداً في صناعة العذوبة وما هو وطني.
تؤكد السيرة الذاتية لصباح قباني أن هاجس التأسيس كان يتملك عائلة القباني جيلاً بعد جيل، فجدّه أبو خليل القباني مؤسس المسرح الغنائي العربي، وأبوه كان أول من أسس لأول معمل للملبَّس، في حين أسس أخوه نزار قباني لمدرسة شعرية حديثة كانت نسيجاً واحداً بلغتها وتراكيبها، أما عمه ثابت فهو من أوائل مدرّسي الرسم وأقدرهم في دمشق، وقد تخرّج على يديه عدد من الفنانين الذين أصبحوا فيما بعد من مؤسسي نهضة الفن التشكيلي في سورية، كما كان أول من خلع الطربوش الذي كان يلتزم به الكبار والصغار وأول من تزيّا بربطة العنق التي تشبه الفراشة، وأول من ابتدع الرسم بالطوابع البريدية بدلاً من الألوان المائية، أما هو ففي أعماقه كانت لوثة حب الفن بأشكاله المختلفة تتملكه، ولكن في ظل عدم وجود المعاهد والكليات التي تدرّس الفنون لم يكن أمامه سوى خيارين: إما دراسة الطب أو الصيدلة أو دراسة الحقوق، ونزولاً عند رغبة أمه سجل في كلية الطب التي تركها بعد أسبوعين نزولاً عند رغبة أخيه رشيد ليمضي إلى دراسة الحقوق والعمل في الإذاعة في الوقت ذاته كمذيع هاوٍ ومن ثم كمذيع رسميّ في إذاعة دمشق عام 1947 ليودّعها بعد تخرجه عام 1949 لإكمال دراسته في الحقوق وسفره إلى باريس التي أوصلته لوزارة لخارجية والعمل في السلك الدبلوماسي لسنوات طويلة.. وما بين الميل للفن والعمل في هذا المجال كان قباني يستكين لما يحب، وهذا ما جعله في حياته يحطّ في محطات كان لها الأثر الكبير في مسيرته ومسيرة عالم الثقافة والفن في سورية والتي حاول تلخيصها في سيرته الذاتية “من أوراق العمر”.

أوراق بألوان الذهب
حينما بدأت تتسرب إلى أوراق عمره الماضية ألوان الخريف لملمها صباح قباني عام 2007 فكان كتابه “من أوراق العمر” مسيرة حياة في الإعلام والفنّ والدبلوماسية خير حافظ لمسيرة هذا الاسم الذي يجب ألا يُنسى من قِبلنا ومن قِبل الأجيال اللاحقة، وأعتقد أن كل من يقرأ هذا الكتاب سيتفاجأ كثيراً كيف رحل هذا المبدع بصمت وهدوء كما حال العديد من مبدعينا، وكيف مرَّ خبر وفاته مرور الكرام وقد كانت له يد طولى في كل ما له علاقة بالمسرح والموسيقا والفنّ التشكيليّ والسينما والتصوير والتلفزيون، وهو قبل ذلك أحد مؤسسي وزارة الثقافة الذين ساهموا في وضع هيكلية أنشطتها وأساليب تنفيذها والمؤسسات التي تمّت إقامتها للارتقاء بالثقافة والفنون، ويبدو أن كل الأفكار التي طرحها في تلك الفترة من خلال عمله في مديرية الفنون التي تسلّم مسؤوليتها عند تأسيس الوزارة كان ينطلق منها من مجموعة مبادئ يؤمن بها ويحلم بتحقيقها، ويأتي في مقدمتها كما بيَّن في كتابه العمل على تغيير مفهوم الفنّ عند الناس ونظرتهم إليه، في الوقت الذي كان فيه الغناء والتمثيل والعزف من الأمور المعيبة التي لا ينبغي أن يمارسها الإنسان السويّ ذو الخلق الرفيع.

ثمرة من ثمار العذوبة والوطنية
وجد قباني في إنشاء وزارة الثقافة فرصة ذهبية كي تأتي مؤسسة رسمية لترعى الفن والفنانين، ورأى أن أولى مهامها أن تتبنى أعمال هؤلاء وتحيطهم بالتقدير بعد أن عانى فنان كأبي خليل القباني (جدّه) ما عاناه حينما حاربه الظلاميون والرجعيون بدعوى أن التمثيل بدعة مخالفة للدين والأخلاق، وللتدليل على أن وزارة الثقافة الناشئة قامت حقاً بدعم الفن والفنانين سارع قباني إلى إطلاق فكرة إقامة معرضين للفن التشكيليّ: معرض في الربيع، وآخر في الخريف، ويعود سبب البدء بالفنون التشكيلية لتوفر الفنانين الأكاديميين آنذاك والأعمال الجاهزة ذات السوية العالية التي تكفي لإقامة معرض جيّد خلال فترة قصيرة، بينما كانت الفنون الأخرى كالأعمال المسرحية تتطلب وقتاً لإعدادها بصورة مقنعة في ظلّ غياب المعاهد الأكاديمية التي كانت من ضمن خطته المستقبلية، ولذلك قصد عام 1959 القاهرة في مهمة اطلاعية للاستعانة بخبرتها في شؤون أكاديميات ومعاهد الموسيقا والفنون المسرحية والسينمائية والتشكيلية والفنون الشعبية، وبعد عودته بدأ في الوزارة بوضع التصورات الأولى للمؤسسات الفنية التي كان يحلم بإنشائها كالمسرح القومي ومعاهد الفنون المسرحية والموسيقية ومراكز الفنون الشعبية، وفي غمرة انشغاله بتحقيق كل تلك الأحلام وقع عليه الاختيار لتولّي إدارة التلفزيون بدمشق والذي لم يكن له أي وجود بعد، فأشرف على مكان المنشآت التي سينطلق منها العمل التلفزيونيّ وأُرسِل في دورات اطلاعية إلى أميركا ليعود في 8 أيار 1960 أي قبل تاريخ الافتتاح المقرر للتلفزيون في 23 تموز 1960 وكان أمامه العديد من التحديات، أولها أنه كان عليه أن يبتكر كل شيء من العدم، فهذا التلفزيون هو أول تلفزيون في المنطقة العربية، أما التحدي الثاني فيتمثل في أن كل ما سيُقدَّم يجب أن يُقدَّم على الهواء مباشرة لعدم وجود أجهزة تسجيل، بالإضافة إلى ضيق المكان الذي سيعمل فيه العاملون في التلفزيون.. هذه الصعوبات بالإضافة إلى صعوبات أخرى كثيرة زادت في إيمانه والفريق الذي كان معه بضرورة خوض تلك التجربة الرائدة والتي رأت النور على يديه والفريق الذي كان معه.
إن كل ما ذُكِر عن القباني ما هو إلا غيض من فيض، ولمن يرغب بالمزيد عنه أدعوه لقراءة كتابه “من أوراق العمر” الذي لخَّص فيه مسيرة طويلة من الحياة المليئة بالانجازات.
أمينة عباس