“رحيق احتضار” وبرزخيـّة الصـّورة الشـّعريـّة
الشـّعر صناعة ثقافة، هو تخطٍ واقتحام وبحث عمـّا هو مفقودٌ، الشعر الذي يقول ما كان قد قيلَ قبلاً، هو شعرٌ بلا نبضٍ، هو جثـّةُ شعرٍ، لذا فإنّ القصيدة التي تحملُ أبعاداً جديدةً وتخيـّلاتٍ تحرّضُ في ذهن المتلقـّي أحاسيسَ وأفكاراً، وتثيرُ معاني وتصوّرات، إنـّما هي القصيدة الفاعلة، وهي التي تمتلكُ أسبابَ وجودها، فالشـّعر يبحث عن الحقيقة ولا يدّعي امتلاكها، يشيرُ إلى الوقائع ولا يقولها، يبني على ما هو كائنٌ ولا يسلـّمُ به، يوحي بالطـّرقِ الجديدة ولا يرسمها، لذا فهو يحتفظُ دائماً بموقعه في المقدّمة، ومهما تقدّمت الرّواية أو اللـّوحة أو القصـّة أو اللـّحن، ومهما نظـّرَ النـّقادُ والدّارسون حول تفوق الرّواية أو المسرح أو غير ذلك، يظلُّ الشـّعر محتفظاً بموقعه في المقدّمة من حيث الأهمـّيـّة والتـّأثير، رغم كلّ الشـّوائبِ التي تشوبه في غمرة ضخٍّ شعريٍّ يتلاطمُ به الشـّعر الحقيقي بالمزيـّف، وما هو بين هذا وذاك، فالأحكام القطعيـّة في الشعر لا تصح، فما من قولٍ ينتمي لذهب الشعر الخالص، ويندر أن نتلقـّى قولاً خالياً من أية بصمةٍ شعريـّة، نقول هذا ونحن نقدّر ونفهم مقولة البدوي (لا يوجد شعر حديث ولا قديم، إما شعر أو ليس شعراً) فهذة المقولة لا تعاكس ما قدمناه بل تصب في سياق آخرٍ، في كلِّ الأحوال إنّ تلقـّفَ القصيدة الجديرة هو أمرٌ ليس بالسـّهل، الحاتمي يقول (مـَثـَلُ القصيدة مثـَلُ الإنسان في اتصال أعضائه ببعض) ونلمس ذلك في المجموعة الشعرية (رحيق احتضار) للأديب غسـّان كامل ونوس، الصادرة حديثاً. يقول ابن قتيبة: (ليس لمتأخـّر الشعراء الخروج على مذهب المتقدّمين) وحقيقةً فإنّ المطلوب هو هذا الخروج، على أن يكون بطرق إبداعيـّة خلاّقة، ناجمة عن قدرة (فثمةخروجٌ ناجمٌ عن عجز وهذا ما نتحاشاه) فما لم يحدث هذا الخروج سواء على مستوى الشكل أو المضمون، فإنه يعني أن الشعر يدخل في السكون أي في الموت المؤقت، لذا نرقب التميز لدى المبدع ونشتهي بصمته وعطره اللذين يميزان قصيدته، في الصفحة \58 نقرأ (قال الجاني: إني ممسوسٌ أو مفتون \ أو محروم \ فدعوني أنزع شوكي بلهاثي.. \ أو أقض عهدي \ بالتلويح على الأسوار..) هنا نظرة مختلفة، وطرح يبدو غريباً ، لكن هذا الطرح لا ينفصم عن الواقع، في الصفحة \ 62 \ نقرأ (تمتماتُ دمٍ أم سؤال؟! \ يحرنُ الوقتُ \ أم يفيضُ الأسى؟\ أم دبيب الندى طال كتمانه\ في صليل النـّصال) وهنا نجد تقارب المتناقضات، وكأنّ النار تخبئ عشقها للماء، ورغم العروج في مسالك السـّموِّ يظلُّ للتـّشهـّي جناحه الذي لا يتعب (وأرسم في معرض الصاديات التـّشهي \ وقوراً كموت المراجيح) بنى غسان كامل ونوس منارته وارتقى على السلم الصعب، في ديوانه “رحيق احتضار” والمكون من خمسٍ وثلاثين قصيدة غالبيتها من المتقارب والمتدارك بما يتوافق مع ضجيجه الدّاخلي وقلقه وآلامه، نلمس الألم الممزوج بالشكوى والأمل، مما يؤنـّقُ الآلام ويسمو بها، يقول في الصفحة \33\: (وأصيحُ: تلكَ بليـّتي وقضيـّتي \ شدّوا وثاقي \ أو أموتُ بسرِّها المضني \شعاعاً غامضاً في الرّيحِ)..
في قصائد المجموعة انسيابية موسيقية، وتنامٍ داخلي، ووحدة عضوية، ولغة شعريـّة تتجلـّى في الإيحاء، يسعى الشاعر لتخطـّي المفاهيم الجامدة، وهو في قصائده لايسير مسالماً طالباً (السّترة) هو يقتحم ويهزّ شجرة المفاهيم ليـُسقطَ ما اصفرَّ منها، هو يطرح من خلال تخيـّلاته رؤىً ترجُّ الواقع، صوره الشـّعرية ليست إكسسواراً يزيّن القصيدة، كما نرى في غالبيّة شعرنا اليوم، بل هي موظـّفة ومتناغمة مع عنصر التـّنامي في القصيدة، وتحمل أثرها في تهييج انفعال القارئ، غالبية الصور الشعرية هنا نراها برزخية تصل الحسّي بالمجرّد، نجد الغموض في بعض المفاصل، ويذكرني غموض شعر ونوس بمقولة الصـّوفيـّة (ومن شدّة الظـّهور الخفاءُ).
“رحيق احتضار” مجموعة شعرية من مئة وثمانين صفحة من القطع المتوسط ، إصدار الهيئة العامة السورية للكتاب.
قيس محمـّد حسين