ثقافة

النحات إحسان العر “شد-هواء-اختراق” منحوتات مفاهيمية بقيم النحت التقليدي

هناك نوع من الفن يدعى بالفن المفاهيمي، يعتمد مبدأ التخطي واختصار المسافة بين الفن والحياة، فهو حدسي يتضمن كل العمليات الفكرية ولا تعنيه مسألة التتابع الزمني أو النظام السياقي، شبيه بالبيئة التي تدعو الزائر للتفاعل معها، والبيئة ليست واقعية بقدر ما هي رمزية تستدعي التساؤل عن المعنى غير المباشر الذي يهدف إلى توسيع أبعاد الوعي، والبحث عن الغائب في اللوحة في عملية حث للذكاء قبل الحواس لاستثارة الذاكرة البصرية الكامنة، لنكتشف من خلالها الحضور الغائب للمخزون البدائي، هي بيئة مهيمنة تفرض وجودها على مخيلة المشاهد وتجعله يقع في حيرة الإيهام داخل ذاته، أو تدعوه للتأمل في مفهوم الصورة الفنية والشغف بشيء من الروحانية السهلة. وللنحات السوري د. إحسان العر رأيه في هذا المنحى من الفنون، حيث اشتغل عليها عبر منحوتات عرفت بالنزعة المفاهيمية، وسنقدم ذلك من خلال الأعمال النصبية التي نفذها الفنان النحات معنوناً ذلك المشروع العلمي النحتي الذي بدأت تظهر ملامحه في الموجود النحتي السوري وفي التجارب الجديدة الواعدة:
شد: نفذ في ملتقى النحت الدولي الأول في السويداء، من خامة الحجر البازلتي، في تكوين رصين مترابط في البنية التشكيلية المؤلفة من الخطوط والسطوح النحتية والملمس والتوازن، بحيث تتماشى هذه العناصر مع الانسيابية والليونة التي يتصف بها عنصر الحركة في العمل، ولتنوع التأثيرات في  الملمس، خلق نوعاً من التباين المطلوب لإبراز وتمايز العناصر بعضها مع بعض، وقد تجلى ذلك بين ملمس القاعدة وجسم العمل.
من حيث شكل العمل فإنه يتماهى مابين التجريدية الهندسية في بنيانه العام والتجريدية التعبيرية التي تتجسد في بعض الثنايا الموجودة في منتصف العمل، كذلك بعض التشققات الموجودة في الخلف، مما أضفى على العمل قيماً تعبيرية تبرز من خلال إكساب الحجر صفات غير موجودة فيه بالأصل كالليونة، وتلك الصفة التي تتسم بها الأجسام الطرية الحيوية والطبيعية، وتأتي إضافة بعض الكابلات الفولاذية التي تجسد عملية الشد في الحجر وثنيه على بعضه البعض، أما من حيث المضمون فإنه يدور حول فكرة مفاهيمية مطلقة هي عملية الشد، وإن تجسيد هذه الفكرة في عمل نحتي بأبعاد 225 سم/ 120 سم/ 100 سم/ يأتي في إطار السعي نحو متلقٍ متفكر في هذا المفهوم، وأين تذهب مخيلته بين الشد الميكانيكي من ناحية وبين انعكاسات عملية الشد في الفكر والفلسفة تبعا لثقافة المتلقي وإدراكه وذائقته الفنية.
هواء: نفذ الفنان “العر” العمل الذي يحمل اسم “هواء” ضمن فعاليات ملتقى النحت الثاني  في السويداء ومن الحجر البازلتي وبعض السلاسل المعدنية وتبلغ أبعاد العمل 250 سم/150 سم / 100 سم / وقد جسد عنصرا هاما من طبيعة الهواء وفعله في حجر البازلت القاسي وذلك بإبراز قيم تعبيرية مغايرة لطبيعة الحجر بإعادة خلق الحركة فيه مجازا، وتجسيد حركة الهواء حين يتحول البازلت إلى حرير يتطاير، في مسعى من الفنان لتعبيرية تضع المتلقي أمام دهشة تستفز مخيلته وتستدعي حدسه وأفكاره لتحليل العمل وفق رؤيته الخاصة، وقد ذكر الفنان العر أن أحد كبار السن في تلك المنطقة قد قال في حينها: “إنني أعرف ماذا تريد  أن تقول من خلال هذا العمل: “إن هذه السلسلة المقيدة تشير إلى قيد اللسان، أما السلسلة الحرة الثانية فهي ترمز إلى حرية العقل الذي لا يستطيع أحد أن يقيده”. بينما البعض الآخر كان له رأي مختلف حيث رأى ما فيه من الإيحاءات التي تنتسب لتفاصيل الجسد الأنثوي، حينها حقق العمل مقصد الفنان المفاهيمي الذي يتمثل في استدعاء عقل المتلقي لتذوق العمل ومن ثم تحليله تبعا لرؤيته وثقافته الفنية الخاصة، فالشكل المؤلف من تلك الخطوط والسطوح النحتية ذات الملمس الناعم الصقيل عبرت من خلال البازلت الصلد عن انسيابية الهواء وحركته اللطيفة، وكأن البازلت أصبح حريرا.. وبالنسبة للسلاسل المعدنية، فقد كان لها دور دور أساسي في إغناء التكوين وقيمه التشكيلية بالإضافة إلى مارمزت إليه وأبرزت من قيم تعبيرية، ودلالات رمزية، تثير في المتلقي أو المشاهد عوامل تفاعله وانفعاله مع هذا العمل وبالتالي تذوقه له.
اختراق: تتمحور فكرة العمل حول فكرة مفاهيمية هي “الاختراق”، اختراق العقل واختراق الحدود والحواجز والفكر والزمن والمستقبل.. أي عملية الاختراق بكل أبعادها الفكرية والفلسفية وحتى المادية، وقد نفذ العمل في ملتقى “حوار بين جيلين” وتبلغ أبعاد العمل 270 سم/140سم /100سم.
أما الشكل فقد حاول الفنان تجسيد مضمون هذا العمل وفكرته المفاهيمية من خلال موضوع يتمثل في اختراق قطعة من البازلت الأسود لمسطح مستطيل الشكل من الحجر التدمري الأبيض، وقد تمت المعالجة النحتية لهذا العمل بأسلوب تجريدي هندسي يتضح من خلال مجموعة السطوح الهندسية المؤلفة لتكوين العمل، وأيضا الأسلوبية الواقعية في معالجة التفاصيل الدقيقة كالثنايا الموجودة عند التقاء قطعة من البازلت بالمسطح المستطيل الذي يشكل جسم العمل الأساسي، لتؤكد عملية الاختراق. كما أن تماهي الأسلوبين في المعالجة النحتية للعمل تهدف لإبراز القيم الجمالية والرمزية والتعبيرية، أما من حيث بنائية العمل فنجد بوضوح الحرص الشديد على توازن التكوين وإيقاعه من خلال عملية التناغم بين الخطوط الشاقولية والمائلة والأفقية، وبالتالي السطوح النحتية المحددة لهذه الخطوط، وما يميز هذه السطوح نعومتها بحيث تحقق انعكاس الضوء على المستطيل الأبيض الناعم تأكيدا للتضاد بين المستطيل جسم العمل وقطعة البازلت التي تقوم بعملية الاختراق وبالتالي ما ترمز إليه من قيم وأبعاد فنية وتعبيرية.
من خلال الأعمال الآنفة الذكر نجد محاولة جادة من الفنان إحسان العر لتقديم أفكار قائمة على مفاهيم مطلقة ترتبط بدور المتلقي وتفاعله مع أعمال قامت على شروط معمارية وفنية دون الإخلال بالقيم التقليدية التي قام عليها النحت بالمحافظة على العناصر التشكيلية والتأكيد على الشكل المورفولوجي للعمل الفني.
أكسم طلاع