“غربال” ميخائيل نعيمة “المبدع يحيا في قلوب الأجيال لأنَّه يعطي آلامها الخرساء ألسنةً من نار، ويمد أمامها أجنحة النور..”
يأتي تسويغ النقد وفق التالي:
ما دمتَ تكتب لنفسك فهو حق لك. أما وأنت تنشر على الملأ فحق لنا نقد ما تعرضه علينا.
النقد موجَّه للنصِّ ليس لصاحبه. وهذه بدهية.
يختلف النقَّاد فيما بينهم.
لا قواعد ثابتة للنقد، ولا بدَّ للناقد من حضور في نقده، بأن يترك بصمته الخاصة، أو ما يسمى قوة التمييز الفطرية، لأنَّ الناقد مبدع ثان للنص.
لماذا الأدب؟
في الأدب يرى الإنسان نفسه ممثلاً وشاهداً في وقت واحد، فربَّ قصيدة أثارت في قارئها عاصفةً من العواطف، ومقالة فجَّرت في نفسه قوى كامنة، أو قصَّة رفعت عن عينيه نقاباً كثيفاً، أو رواية قلبت يأسه إلى رجاء، وخموله إلى عزيمة.
عندما تقرأ الأدب فأنت تكتشف عوالم نفسك ذلك أنه رسول بين نفس الكاتب وسواه والأديب الذي يستحق أن يدعى أديباً هو من يزوِّد رسولَه من قلبه ولبِّه.
وبالتالي لا يصف الأديب إلا ما تراه عينه الروحية، ولا يكتب إلا ما يختمر في قلبه حدَّ التعتُّـق نبيذاً معتقاً. فالشاعر، مثلاً، يمدُّ أصابعَ وحيه الخفيَّة إلى قلوبكم، ويحوِّل أبصاركم إلى ما انطوى تحتها، فتبصرون عواطف، وتعثرون على أفكار، تحسبونها أفكاره وعواطفه. لكنَّها في الحقيقة عواطفكم وأفكاركم، لم يكتشفها الشاعر، ولا ابتدعها بل أيقظها في دواخلَكم، بعدما كانت في سبات.
وعلى الرغم من ذلك، فالشاعر ليس عبد زمانه، ورهين إرادة قومه؛ ينظم ما يطلبون منه ويفوه بما يروقهم سماعه فحسب. مع اعتقادي، في الوقت نفسه، بأنه لا يصمَّ أذنيه عن حاجات الحياة، ويغمض عينيه عن خير قومه.
يولد أكثرنا، ولديه ميل فطريٌّ للشعر. ولكن أين من يكتب درراً؟ وكلٌّ يعدُّ نفسه “نعم الفتى”؟
أيُّها الشاعر: أن تأكل القصيدة من لحمك وروحك، أن يصبح الشعر نقيضك وبذرة فنائك. وكما يقال أيضاً: متى طالعت عزيزي القارئ وجدك في بيت من الشعر فقل إنَّ صاحبه شاعر.
لماذا القراءة؟
بناءً على ما سبق، فالقارئ لا يقرأ إلا نفسه. لكن على ألا يكون كسولاً، يملأ ذاته بالفراغ، بل عليه أن يعمل على تنمية أفكاره، وتذوقه، بمزيد من القراءات، حتَّى يتذوَّق بشكل أفضل، ويتفهم بشكل أعمق مشاعرَ وأفكارَ الكاتب. من هنا جاء تعدُّد القراءات، فأحدنا قد يحوز على 50% مما يسمع أو يقرأ، وآخر 70% وهكذا. بينما قد يستمع جاهل إلى شاعر فيسأل بسذاجة: ماذا يقول هذا؟
كذلك على القارئ أن يتزوَّد بكلِّ أنواع الفنون والأدب. وإلا وقع في الإفلاس الروحي والذوقي.
لماذا النقد؟
والآن: إذا لم يكن للناقد من فضل سوى ردِّ الأمور إلى مصادرها، وتسميتها بأسمائها، لكفاه ذاك ثواباً، إلا أن فضل الناقد لا ينحصر في التمحيص، والتثمين، فهو مبدع ومولِّد، مثلما هو ممحِّص ومثِّمن. إنَّه روح كبيرة عظيمة، نبيٌّ، وابن كار، لأنَّه، وهو ينقد، يكشف نفسه. فعندما يقول: هذا حسن. فلأنَّه في نفسه يعرف أنَّ هذا حسن. والعكس بالعكس.
وهو مرشد، يصوِّب البوصلة، في أحيان كثيرة، من الشعر إلى القصَّة، أو من القصَّة إلى الرواية، أو من هذه كلّها إلى أن تكون معلِّم حرفة، أو بيَّاع فلافل.
من هنا وجب أن تكون للناقد آراؤه الخاصة في الجمال والقبح. ولكن هل يجب أن يكون الناقد شاعراً حتَّى ينقد الشعر، وقاصَّاً حتى ينقد القصَّة؟…
سؤال مفتوح مع أنَّه عندما يكون الناقد شاعراً، فهو يعرف مفاتيح الشاعر، وهكذا دواليك.
برسم نقادنا الأفاضل:
على الرغم من إعجاب ميخائيل نعيمة بإبداع جبران خليل جبران، وإقراره بعبقريته وموهبته لم يجامله عند الحديث عن قصصه فقال: “وجبران في قصصه يخلق حالات وأشخاصاً، تنقصهم أبداً دقَّة الحبك، والتصوير الواقعي، ولا غرض له من خلقهم إلا أن يجعل منهم مطايا لقلمه، ليفتنَّ ما شاء له الفنُّ في وصف الطبيعة البشرية.
أخيراً فالغربلة سنة من سنن الطبيعة، وهي أكبر مغربل، ألا تراها في كلِّ حالاتها تنبذ، أو تحتضن؟ وما قولنا إنَّ البقاء للأصلح ـ وليس للأقوى ـ إلا دلالة على ذلك. إنَّها تفصل الحبوب الصالحة عن الطالحة، وما يرافقها من الأحساك، كذلك النقد الأدبي هو التمييز بين الجميل والقبيح في القول. ومن هنا جاءت تسمية الكتاب.
“تستمر الحياة في اكتشاف الجديد واختبار ما لا يزال مجهولاً والإقدام ـ بكلِّ جرأة وبسالةـ على ما تُشتَمُّ منه رائحة الحقيقة. فالحياة في الانتقاد والتجدُّد دائماً”.
هذه بعض مقتطفات من كتاب عريق ومهم- اختاره أ. د. حسين جمعة وقدَّم له
أ.مالك صقور- غربل كتابات أغلبها شعريَّة، وأخرى قصصيَّة، وسواها، صدر ملحقاً “كتاب جيب” مع مجلة الموقف الأدبي عدد آب 2014 لمؤلفه الذي لطالما تغنَّى بسوريَّته، وكان يفتخر طوال عمره أنَّه سوري: الناقد والشاعر، القاصُّ والمسرحي ميخائيل نعيمة الذي أسس عام 1920 مع جبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي، ورشيد أيوب وغيرهم الرابطة القلميَّة في بلاد المهجر، وكان مستشارها وأمين سرِّها. مع ملاحظة لا بدَّ منها: إذ لماذا لا يكتب اسم الكتاب على كعبه كما هو متبع في العادة؟
الكتاب حافل بالنقد الجميل والمعبِّر، مفعم بالتهكُّم من أدعياء الأدب. فما أحوجنا إلى غربالك يا أستاذ ميخائيل كي نميِّز ما بين الزبد، يطفو على السطح بلا طائل – وما أكثره هذه الأيام – والأدب ينفع الناس، إذ يحفر عميقاً في حياتهم.
ولنسأل الحظ أن يسعفنا بمغربلين حاذقين صادقين. وكفانا تقليباً لصفحات من المدح أو القدح.
أيمن الحسن