“قهوة مرة” مباشرة في الطرح ومواربة مكشوفة في النوايا
«أبو سمعو» رجل حلبي، هكذا تدل لهجته الحلبية، وزيه الشعبي الحلبي الذي لم يعد يرتديه إلا الممثلون الذين يقدمون شخصيات في أعمال درامية لها صبغة تاريخية في البيئة الحلبية، «سنأتي على الخوض في هذا الأمر وذلك لأهمية الزي هنا، وعمق دلالته»، يحكي في ستين دقيقة، على خشبة مسرح الحمراء، حكاية مدينة حلب بشكل منفصل بعد الأحداث الدامية التي عصفت بالبلاد جميعها، وذلك في العرض المسرحي «قهوة مرة» الذي جاء برعاية وزارة الثقافة– المديرية العامة للمسارح والموسيقا.
الرجل خسر أسرته جراء حوادث عدة منها الشقاق الذي أصابها جراء وقوف أحد بنيه في صف الإرهاب الذي يضرب بلده، بينما اختار الابن الثاني أن يقف مع الجهة الأخرى التي أسماها: «حازم حداد»، كاتب ومخرج وممثل العرض «هدول» باعتبار أن الجهة الأولى أسماها: «هدونيك»، في إشارة إلى المجموعات الإرهابية من جهة، وإشارة إلى الجيش العربي السوري من جهة أخرى، ليقتل أحد الأخوين الذي لم نعرف لأية جهة ينتمي، «هدول أو هدوليك»، الأخ الآخر، وستموت زوجته أيضاً بسبب طلقة من قناص مجهول، أما ابنته فقد تزوجت بشكل مفاجئ، كما حدث مع الكثير من السوريات في مخيمات اللجوء، بعد أن نزح معها إلى إحدى المدارس التي تحولت إلى ملاجئ مؤقتة للمهجرين من بيوتهم بفعل الحرب.
الحكاية التراجيدية التي عمل «حازم» لتقديمها عن أهل مدينة حلب التي رمز لها «بالحارة» إن كان من خلال مونولوجاته الوحيدة، باعتبار أن العرض ينتمي لجنس المونودراما في المسرح، أو من خلال الحوارات التي أدارها مع مجموعة شخصيات افتراضية يرمز لها في العرض بملابس معلّقة على حبل، جاءت موسومة بصبغة إنسانية من وجهة نظر حيادية، تحكي قصة الحلبيين الذين اعتبرهم المخرج في «قهوة مرة» ضحية القتال الدائر بين طرفين في البلد، وما وقع لهم من انتهاكات، وقتل، وتشريد، وتدمير للبيوت، وضياع للأرزاق، وتجويع، وقهر، واضعاً كلاً من الإرهابيين والجيش في كفة واحدة، ففي مشهد عودته من عمله إلى بيته مع صديقه «أبي علي» الذي رمز له بعكاز، يقف على ثلاثة حواجز في طريقه: حاجزان يعرفهما، ويُعرّف الحضور قليل العدد بهما، فأحدهما «لهدول»، والآخر «لهدوليك»، أما الثالث فمجهول الهوية، حيث سيلقى من الحواجز المعاملة ذاتها، وهذا الأمر مستنكر، ففي حين تتواجد حواجز الجيش العربي لحماية السوريين، فادية إياهم بدماء رجالها، كما وقع للعديد من الحواجز العسكرية التي فجرها الإرهابيون في حلب، وغيرها، وبالتأكيد هناك حالات فردية حصلت ربما في بعض الأماكن، ولكن لا يجوز تعميم هذه الحالة على الخشبة، وتعزيزها بما يؤكدها ويرسّخها في الوعي، بالمقابل تتواجد حواجز للعصابات المسلحة أيضاً، وكلنا صار يعلم ما يصيب الناس في حال اضطروا للعبور منها من سلب، وقتل، وسبي، ولا أدري كيف رضي المخرج والرقابة التي أجازت العرض بمساواة الجيش العربي السوري بالمجموعات الإرهابية؟!!.
الدليل الآخر على ما ذهبت إليه قراءتنا لـ «قهوة مرة» من مساواته العدو بالمعتدي على أرضه وشعبه، هو وجود بزة عسكرية بين مجموع من الملابس المعلّقة على حبل ممتد من يمين الخشبة إلى منتصفها، حيث يوجد مجسم لدرج اسمنتي مهدم، هو ما تبقى مع طاولة وبضعة كؤوس من البيت الذي كان داراً عامرة فيما مضى، «أيضاً يشير المخرج والكاتب والممثل إلى السرقة التي طالت البيت كغيره من البيوت، دون أن يدل على الفاعل، إن كان من هدول أو هدوليك»، فالأزياء المعلّقة على الحبل جاءت بمثابة شخصيات مشاركة في العرض، أيضاً بحل إخراجي ذكي، فجعل وجودها، أي الشخصيات، قائماً باستبدالها بأزياء تدل على هويتها، و«لمبة» في أعلى كل زي تنير عندما يكون الحديث موجهاً إلى إحدى الشخصيات المرمز لها بالزي، وفي الحوار الذي يدور بين الممثل والشخصيات سنتعرف على هوية الأزياء التي دلت عليها، منها كما أسلفت بزة عسكرية ترمز إلى الجيش العربي السوري، وعباءة تدل على رجل دين سلفي، وملابس أفغانية، وغيرها، سيكون لها كبير الأثر في دمار حياة الحلبيين الذين بيّنهم العرض وكأنهم لا مع الوطن ولا عليه، بل هم مع أنفسهم مع حياديتهم التي لم تنفعهم في شيء، وهذا فيه تجن كبير على أهلنا في حلب الذين انخرطوا مع الجيش في حربه على الإرهاب، رغم أن البعض منهم وقف في الجهة الأخرى، وفيه تجن غير مقبول على قواتنا المسلحة التي كانت في ثكناتها قبل أن تبدأ حرباً كونية بكل معنى الكلمة على البلد الذي أفراده هم حماته، ولم يكن خروجها من ثكناتها العسكرية إلا للدفاع عن حلب، وعن غيرها من المدن والقرى السورية.
ورغم أن العرض ذهب نحو تقديم الموعظة والنصح لنبذ الخلافات، وإحلال المحبة مكان القتال، إلا أنه يمرر بدهاء مقولة خطيرة تجعل من الذي ضحّى بدمه وروحه لأجل أن يحميه وغيره من السوريين، مسؤولاً بالدرجة ذاتها مع غيره من الأطراف الصهيووهابية، والعثمانية الجديدة، وخائني وطنهم، عن الحال التي وصلنا إليها الآن، فالبزة العسكرية لم تظهر كما هي عليه في الواقع من رمز للإباء والتضحية، بل ظهرت بالقسوة والسادية ذاتها التي ظهرت عليها باقي الرموز في تعاطيها مع الحلبيين الذين يرمز لهم الممثل بزيه الحلبي التقليدي، رغم أن أحداث العرض تدور هنا والآن، وهذا ما جعل العرض يقدم مدينة حلب وكأنها منفصلة عن النسيج الاجتماعي السوري، لأننا سنسمع أيضاً عدة لهجات تدل على شرائح المجتمع السوري، لكنها هي بما ترمز له في كفة، وحلب في كفة أخرى، هي في كفة المشاركين بخراب حلب، وحلب في كفة الضحية، فهم أناس بسطاء يبتهجون بأبسط المسرات، قانعين بحالتهم الاجتماعية الفقيرة، ثم جاءهم الويل من كل الأطراف التي قدمها العرض كأنها شريكة في الجريمة ذاتها!.. وهذا ما لا يقبله الحلبيون بوطنيتهم عن الحالة التي أظهرهم بها «قهوة مرة»!.
المباشرة في الطرح، إن كان من خلال الأداء، أو سنوغرافيا العرض، كانت هي السمة السائدة عليه، أما أداء الممثل فقد جاء عفوياً، ويمكن تسميته أيضاً بالأداء الشعبي، فالممثل بدأ عرضه بتقديم بضعة فناجين قهوة مرة للحضور، إما للترحيب بهم وكسر حاجز الإيهام بينهم وبين ما سيدور على الخشبة لكسب تعاطفهم، وبالتالي تصعيد الحالة الشعورية العاطفية لديهم على حساب المحاكمة المنطقية لما سيشاهدونه، أو لإعطاء انطباع عام يوحي بأننا كنا في عزاء مفتوح أو جنازة لا في عرض مسرحي، ليستمر أداؤه في وتيرة مضطربة، تعلو حيناً، وتخفت حيناً آخر، زارعاً خشبة مسرح الحمراء بخطوات، ورقصات، واستشاطات مفهومة حيناً، ولا معنى لها حيناً آخر.
ولا أدري إن كانت أغنية «أنا مواطن» للفنان لطفي بوشناق هي جزء من العرض، أم مجرد أغنية لتزجية الحضور ريثما يبدأ العرض؟!.. إلا أنني أميل للخيار الأول، خصوصاً أن عشر دقائق ستمضي من زمن العرض الذي يفترض به أن يبدأ في الخامسة تماماً، لكن الأغنية التي قُدمت كاملة جعلته يتأخر عن موعده ريثما يتم وضع الحضور بالجو العام لـ «قهوة مرة» باعتباره عرضاً مسرحياً حيادياً، وما سيقدمه هو حكاية مدينة لا علاقة لها بما يجري من اقتتال في البلد الذي تنتمي إليه، ورغم ذلك أصابها ما أصابها!.
تمام علي بركات