ثقافة

“سلم إلى دمشق” : التمويل من قطر، والتلوين في تركيا!

ليس في فيلم سلّم إلى دمشق ما يبرر طوله، يُمكن أن يُحذف منه عشرين أو ثلاثين دقيقة دون أن تخسر القصّة شيئاً، المرحلة الزمنية الوحيدة المتماسكة والمتسلسلة  فيه تقع في النهاية التي لا تزيد على دقيقتين من زمنه (البالغ 94 دقيقة عندما يُعرض في دمشق، و95 دقيقة عندما يُعرض في بيروت، و97 دقيقة عندما يُعرض في عمّان). النهاية تصلح كفيلم قصير بمفردها نتيجة انفصالها عن السياق، وأيضاً اختلافها في النوع عن الفيلم، كان دراما اجتماعية – سياسية ، فتحوّل إلى رمزي تجريدي أقرب إلى المسرح التجريبي منه إلى الفيلم الروائي، هذا يُشبه على سبيل المثال أن يتحوّل فيلم رومانسي اجتماعي في آخر دقيقتين إلى فيلم رعب، أو فيلم حروب إلى فيلم أطفال.
النهاية كالتالي: الشخصيّة يُشاهد على التلفاز تقريراً إخباريّاً شهيراً بثّته قناة الجزيرة القطريّة،  ويظهر فيه طفلة مرسوم على خدّها علم الانتداب ذي الثقوب الحمراء الثلاثة، ومن ورائها جمهرة من الناس يتعرضون للقصف، فينهض الشخصيّة بغضب، إنّه لم يعد قادراً على الاحتمال، فيُمسك بالتلفاز ويهوي به أرضاً وينهال عليه ويحطّمه، ويخرج من حجرته ويصعد إلى السطح صارخاً وغاضباً من الوضع، فتتبعه بعض الشخصيّات، وعلى السطح يمسكون له بسلّم ويرفعوه، يثبّتوه منتصباً في الهواء فيصعد أعلاه بينما المدينة في عمق الكادر، ثم يصرخ وهو أعلى السلّم: حرّيّة. إن شخصيّات العمل ربّما خمّنت ما يدور في خلد الشخصيّة الغاضبة فاتّخذوا قرارهم المتعلّق برفع السلم صامتين، وذلك من تلقاء أنفسهم، وأيضاً ليجدوا للمخرج نهاية وعنواناً للعمل الذي ينطوي على نقاط ضعف فادحة قد تجعله مثالاً تدريسيّاً لطلّاب السينما عن أخطاء يجب ألّا يقعوا فيها، منها على سبيل الذكر إذْ يصعب الحصر: اختيار المُخرج لمزاج إضاءة وحرارة لون يغلب عليها الأبيض الداكن القريب إلى السكّري والقشدي، وهو مزاج يناسب أفلام الرومانس والرومانس- كوميدي، وأيضاً الاعتناء المفرط بجودة الصورة على حساب كل ما عداها من أداء  وحركة داخل المشهد، الأمر الذي جعل الفيلم يُخفق في الحصول على أي جائزة متعلّقة فيه كفيلم روائي في المحافل الدولية، الجائزة الوحيدة كانت جائزة للتصوير السينمائي من مهرجان مالمو آراب 2014، وهي تُحسب للمصوّر وليس للمخرج الذي حقق عملاً يُمكن أن يُقال عنه أنّه مشروع تجريبي في التصوير السينمائي. وفي هذا الشأن قد تُساعد مقارنة التكاليف على فهم أسباب الفشل المدوّي، لقد أنفق صانعه عليه أكثر من مائتين وخمسين ألف دولار على التصوير وتصحيح الألوان – تصحيح الألوان تم في استوديوهات مونتاج عالية الجودة في تركيّا-  بينما لم يُنفق على السيناريو أكثر من ألف دولار واحدة فقط لا غير، صحيح أن الإبداع لا يُقاس بالمال، ولكنّ مقارنة تلك الأرقام قد تُساعد على فهم العقليّة التي تقف وراء العمل، وما الذي انتهى إليه بعد ذلك؟ إنّه  كفيلم روائي لا يستأهل أن يُنفق في الحديث عنه ثمن الأحبار التي قد تُهرق على خمسة من سطور هذا المقال، وهو -رغم أن تكلفتة فاقت المليون ومائة ألف دولار-  أرخص في القيمة من تكلفة  تيّار كهربائي من دقائق قليلة يخسرها القارئ لإضاءة شاشة حاســبــه إذا كــان يقــرأ هــذه الســطور عبر الانترنــت. على أنّه كحالة ثقافيّة مجتمعيّة، يستأهل الحديث عنه من باب: أين وكيف عرضه المُخرج؟ وماذا يحاول أن يقول؟
إنّه بعد قرابة عام ونصف عام  من إنتاجه لم يُعرض في بلده ومدينته دمشق التي كُتب وصّور فيها وعنها، لقد جاب مهرجانات عديدة، دبي، تورنتو، لندن، اسبانيا وكذلك عُرض في بيروت ومصر وعمّان، ومنذ أيّام بدأ عرضه الجماهيري الأوّل في مصر، العرض الوحيد في دمشق كان خلال جلسة خاصّة لعدد من أصدقاء المخرج ومعهم زمرة من المشتغلين على الفيلم، وذلك في بيت مدير الإنتاج  الفعلي سامر رحّال بتاريخ التاسع من أيلول عام 2013 – مُدير الإنتاج الرسمي على الورق هو جورج شقير- ذلك لا يُمكن تسميته عرضاً للفيلم، إنّه ببساطة استشارة ومناقشة داخلية بين صانعي العمل أنفسهم.     في الفيلم ينقسم المجتمع السوري إلى خمس شرائح، تصفهم وكيبيديا باللغة العربية هكذا: مدني، ابن ضيعة، كردي، جولاني، وفلسطيني. إن ابن الضيعة أو ابنة الضيعة (غالية) التي استقرّت في بدنها روح زينة، وزينة هذه فتاة غرقت في البحر سابقاً، وها هي بعد أن تقمّصت روحها في الجسد الجديد حيّة تُرزق، كل تلك الحبكة الصعبة على الفهم، والتي تحتاج إلى جهود وتفاسير ناجمة عن خطأ  وقع فيه المخرج، وهو ظنّه أن ما في ذهنه واضح على الشاشة، ولذلك درج صانع العمل على إطلاق عشرات المقالات مع كل فيلم للشرح والتوضيح، المهم هو هدفه في الوصول إلى المشهد الذي يُصوّر والدها؛  شيطان البحر: ضابط متقاعد مع إضاءة حمراء يحتسي العرق على الشاطئ، فتُساهم الإضاءة الحمراء مع الشعر الطويل والوجه المتجدّر في تحقيق التصوّر الملصي – البصري عن أهل البحر، أو أهل الساحل بعبارة أُخرى؛ في الأخبار المسرّبة للصحافة ومواقع التواصل أنّ الضابط المتقاعد حزين على انكسار أحلام الماضي المتعلقة بالنصر والعروبة  وفلسطين، لكنّ جمهوره يفهمه على الشاشة غير ذلك، كما يفهم عبارة وردت بقلم واحد من صغار الكتّاب تصف قبر والد ملص بأنّه: بلا شاهدة ؛ الجمهور السلفي ربّما تغرورق عيناه  من التأثّر وهو يقرأ هذا التلميح الوهّابي، مثلما تغرورق وهو يُشاهد الشيطنة البصريّة للشخصيّة على الشاشة، والانتقام الملصي من شريحة من الشعب السوري، لقد كانت عادة الفنّانين والكتّاب الكبار عبر التاريخ هي توحيد شعوبهم، وإزالة عناصر الفرقة بين أهل الوطن الواحد، ولكنّ موضوعنا الآن حتماً  ليس عن هؤلاء.
في  أحد مشاهد الفيلم يقوم  فؤاد، صديق غالية -وهو الفتى المراهق المولع بالسينما- بزيارة  قبر عمر أميرلاي – لمن لا يعلم عمر أميرلاي  صانع أفلام شبه وثائقية اكتشف في أواخر أيامه أنّه تركي وليس سوري-  فيقف أمام قبره ويقول:”انكسر الخوف.. طوفان يا عمر طوفان”. إنّنا إذا افترضنا أنّ فؤاد هذا  يعرف من هو أميرلاي، ومن الوعي أن يفهم مقولة فيلم ” طوفان  في بلاد البعث” ليستعملها في كلماته التي قالها له عند القبر  فلماذا بقي الخوف في فؤاد محمّد ملص بعد أن انكسر عند الشخصيّة فؤاد؟ في عرض  الجلسة الخاصة بدمشق قام المخرج بحذف الصوت عن الشريط بسبب الخوف من الرقابة، ووضع مكانه ضجيج الأجواء فلا نسمع ما يقوله فؤاد أمام القبر، لكنّ الصوت عاد وظهر في عرضي بيروت وعمّان لاحقاً، هذا الإجراء  يمتدّ أيضاً ليطال بعض المشاهد؛ في عرض دمشق الخاص تحكي إحدى الشخصيّات كيف عاملها الجندي على الحاجز بتوجيه سيل من الأسئلة المزعجة، وفي عرض بيروت أيضاً، أمّا في عرض عمّان يحكي ذات الشخصية في ذات المشهد كيف ضربه الجندي على الحاجز. في عرض دمشق الخاص ليس ثمّة مشهد خارجي للجندي الذي ينظر إلى الكاميرا التي تأخذه بلقطة من زاوية مرتفعة، ولا في عرض بيروت، لكنّه يظهر في عرض عمّان.
المخرج إذاً لديه نسخة لكلّ مدينة، نسخة للعرض السرّي في دمشق، ونسخة لبيروت، وأُخرى لعمّان، ورابعة للقاهرة، هذه ليست سمة فنّان يدّعي النهوض بقضايا الحرية وانكسار الخوف، وإنّما سمة المُطربين في المراقص الرخيصة ممن يُكيّفون الأغنية ويُضيفون كلمات ويحذفون أخرى وفقاً للمكان والجمهور؛ لأنّ تحيّة إلى شباب جمهور كازينوهات التل لا تتفق مع تحيّة لشباب جمهور كازينوهات الربوة؛ يجب تعديل الكلمات والتحيّات وفقاً لكل مكان جديد. وإذا كان المُخرج يفعل ذلك في دمشق خوفاً من الرقابة، وفي بيروت خوفاً من جمهور المقاومة، فيجب عليه الاشتغال على موضوعات أخرى لا علاقة لها بموضوعات انكسار الخوف والطوفان، لقد كان خائفاً من التعبير عن انكسار الخوف، رغم أن العرض كان مشاهدة منزليّة وحسب، فانتفى عند صانع العمل أهم ما يميّز العمل الجيّد، ألا وهو الصدق.
الفيلم الذي حصل على معظم تمويله من “الدوحة للإنتاج الفني” أضاف شركتي إنتاج وهميتين إلى لائحة مصادر التمويل، فبالإضافة “للدوحة” هناك “دنيا للإنتاج الفنّي” و”أباووت برودكشن” اللبنانيّة، فعلَ  ذلك كي لا يبدو الفيلم محض قطري، على طريقة: لكي يضيع دمه بين القبائل، ثمّة مفارقة سياسية في كل هذا التمويل من قطر، والتلوين – تصحيح الألوان– في تركيّا. لقد كان على شخصيّة فؤاد ألّا يقول عند قبر المدعو أميرلاي: انكسر الخوف يا عمر، بل كان عليه أن يقول: انكسر الحياء يا عمر، فإذا لم تستح فافعل ما شئت.
بشار عباس
بطاقة الفيلم: العنوان: سلّم إلى دمشق
الفئة: دراما اجتماعية – سياسية
سيناريو: محمّد ملص – سامر محمّد إسماعيل